إزالة الوَلَه عن وَهَم الحافظ الثِّقة

فاروق عبد الله النَّرَايَنْفُورِي الحديث وعلومه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين, أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أما بعد.

فهذا بحث مختصر في تخريج حديث أبي هريرة رضي الله عنه: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الحُمُرِ، فَقَالَ: «مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الآيَةُ الجَامِعَةُ الفَاذَّةُ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾», وهو يَصْلُحُ مثالًا لِوَهَمِ الحافظ الثقة, فإن الثقة قد يَوْهَمُ؛ لكنَّه لا يَكْثُرُ منه ذلك في جَنْب ما رواه, ولا تَنْحَطُّ درجته لِوَهَمه في بعض الأحاديث, فإنه لا يَسْلَمُ منه أحدٌ مهما بَلَغتْ رتبته في العلم والحفظ, وقد بَيَّن علماء الجرح والتعديل أوهامَهم في بعض الأحاديث صيانةً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل صَنَّف فيه بعضهم مُصنَّفاتٍ في ذلك.
ومعرفة عِلَّة الحديث؛ خاصةً في أحاديث الثقات من أهمِّ أنواع علوم الحديث, وقد ذكرها الإمام أبو عبد الله الحاكم رحمه الله في النوع السابع والعشرين من أنواع علوم الحديث, حيث قال: "هذا النوع منه معرفة عِلَل الحديث، وهو عِلْم برأسه غير الصحيح، والسقيم، والجرح والتعديل”, وقال بيانًا لأهمِّيَّته: "إنما يُعَلَّل الحديث من أوجُه ليس للجرح فيها مَدخَل، فإن حديث المجروح ساقطٌ واهٍ، وعلة الحديث يَكثُرُ في أحاديث الثقات, أن يُحدِّثوا بحديث له علة، فيَخفَى عليهم عِلْمه، فيَصير الحديث معلولًا، والحُجَّة فيه عندنا الحفظ، والفهم، والمعرفة, لا غير”. [«معرفة علوم الحديث» (ص112)]
والحديث الذي اخترتُه مثالًا لِوَهَم الحافظ الثقة قد بَيَّن عِلَّتَه الإمام أبو زرعة الرَّازي رحمه الله, ذكرها ابن أبي حاتم في «عِلَلِه» (2/606-607, رقم النص 633), فقال:
"سمعتُ أبا زرعة, وحدَّثنا عن يحيى بن بُكَير، عن اللَّيث، عن هشام بن سَعْد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسار، عن أبي هريرة؛ قال: قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أصحاب الحُمُر ؟ قال: لم ينزل عليَّ في الحُمُر شيء؛ إلا هذه الآية الفَاذَّةُ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
فقال أبو زرعة: هذا وَهَمٌ، وَهِمَ فيه اللَّيثُ؛ إنما الصحيح كما رواه مالك وحَفْص بن مَيْسَرة، وابن أبي فُدَيك عن هشام بن سَعْد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم”.
والفَاذَّةُ: أي: الجامعة, المُنْفَرِدة في معناها. [«النهاية» (3/422)].
فالإمام أبو زرعة الرازي أعَلَّه بِوَهَمِ اللَّيث بن سعد, وهو ثقة حافظ إمام من أئمة الحديث والفقه, ويَتَبَيَّن وَهَمُه في هذا الحديث بتخريجه المُفَصَّل إن شاء الله, فأقول وبالله التوفيق:
هذا الحدث أخرجه ابن أبي حاتم في «عِلَله» (2/606, رقم النص: 633) عن أبي زرعة عن يحيى بن بُكير، عن الليث، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة؛ قال: قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحاب الحُمُر؟ قال: لم يَنزِل عليَّ في الحُمُر شيء؛ إلا هذه الآية الفاذَّةُ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
والليث بن سعد خالَفَه ابنُ أبي فُدَيك عند أبي داود (2/125, ح1659, بدون ذكر الشاهد), وابنُ وهب عند الطَّحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/273, ح5337), وعند البيهقي في «شعب الإيمان» (5/13, ح3031), فرَوَيَاه (أي: ابنُ أبي فُدَيك وابنُ وهب) عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السَّمَّان عن أبي هريرة نحوه.
فسَمَّيَا أبا صالح السَّمَّان بدلَ عطاءِ بنِ يسارٍ.
والرَّاجِح عن هشام بن سعد –والله أعلم- ما رَوَيَاه عنه عن أبي صالح؛ لأنهما أكثَرُ وأضبَطُ, أمَّا الليث بن سعد فوَهِمَ بذكر عطاء بن يسار فيه كما قاله أبو زرعة الرازي رحمه الله.
وقد تابَعَهما مُتابَعةً قاصرَةً الإمامُ مالكٌ في «الموطأ» (1/348, ح901), وحفصُ بنُ مَيْسَرَة الصنعاني عند مسلم في «صحيحه» (2/680, ح987), فرَوَيَاه (أي: مالك وحفص بن ميسرة الصنعاني) عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة نحوه.
وزيد بن أسلم تابَعَه سهيلُ بن أبي صالح عند الإمامِ أحمد (13/7, ح7562), وابنِ خزيمة (4/10, ح2252), وبُكيرٌ عند أبي نعيم في «مستخرجه» (3/69, ح2227)؛ فرَوَيَاه (أي: سُهيلٌ وبُكيرٌ) عن أبي صالح السَّمَّان عن أبي هريرة نحوه.
فالحديث محفوظ ومشهور من طريق أبي صالح السَّمَّان كما رواه الجماعة من الحُفَّاظ, وليس من طريق عطاء بن يسار كما رواه الليث بن سعد.
نعم رُوِيَ عن عطاء بن يَسار من غير طريق الليث أيضًا, أخرجه البزَّار في «مسنده» (15/258, ح8726 مختصرًا) من طريق سفيان (وهو ابن عيينة) عن محمد بن عَجْلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة نحوه.
ومحمد بن عَجْلان قال عنه الحافظ: "صدوق, اختلطتْ عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه”. [«تقريب التهذيب» (ص496, رقم الترجمة: 6136)].
لكن هل اختَلَطَ عليه جميع أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه؟
الظاهر: لا؛ بل الذي رواه عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة فقط, فإنه يقول: كان سعيد المَقْبُرِي يُحدِّث عن أبيه عن أبي هريرة, وعن رجل عن أبي هريرة, فاختلطَتْ عليَّ, فجعلتُها عن أبي هريرة. [«التاريخ الكبير» (1/196), و«إكمال تهذيب الكمال» (10/ 271)].
وهنا لم يَروِ عن سعيد, فلا نستطيع أن نَجزِم أنه اختلَطَ عليه؛ لكنَّه خالَفَه فيه ثلاثةٌ من الثقات: مالكٌ وحفصُ بنُ مَيسَرة وهشامُ بنُ سعد كما مَرَّ, فرَوَوْهُ عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السَّمَّان, -وليس عن عطاء بن يسار- عن أبي هريرة نحوه.
والراجح ما رواه الجماعة, فإنهم أحْفَظُ وأضْبَطُ من ابن عَجْلان بكثير, والله أعلم.
وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (6/231, ح6269, مختصرًا) من طريق سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة نحوه.
فسَقَط محمدُ بنُ عجلان عنده, ورواه سفيان عن زيد بن أسلم مُباشَرةً, وهو إسناد ظاهرُهُ الصِّحَّة؛ إلا أنه مُعَلٌّ -والله أعلم- بتدليس سفيان, وهو وإن كان قليلَ التدليس, وأنه لا يُدلِّس إلا عن الثقات؛ فقد اعْتَرَفَ على نفسه التدليس عن زيد بن أسلم؛ يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا سفيان بن عُيَينة يومًا عن زيد بن أسلم عن علي بن الحسين, قال: يجزي الجُنُب أن يَنغَمِس في الماء, قُلنا: من دون زيد بن أسلم؟ قال: مَعْمَرٌ, قُلنا: من دون معمر؟ قال: ذاك الصَّنعاني عبد الرزاق. [«تعريف أهل التقديس», (ص32, رقم الترجمة: 52), و«التمهيد» (1/31)].
فإنه رحمه الله يُدَلِّسُ أحيانًا عن زيد بن أسلم, ويُسقِطُ مَن حدَّثه عنه, ولعلَّه فعل هذا في هذا الحديث, فأَسْقَط محمدَ بنَ عجلان بينه وبين زيد بن أسلم, فرَجَع الإسنادُ إلى طريق محمد بن عَجلان السابق, وقد سبق أنه طريق مرجوح.
فالحديث محفوظ من طريق أبي صالحٍ السَّمَّانِ فقط, وهو حديث صحيح مُتَّفَقٌ على صحَّته, وروايته من طريق عطاء بن يسارٍ وَهَمٌ, كما قاله أبو زرعة الرَّازي رحمه الله تعالى, والله أعلم وعِلْمه أتَمُّ وأحكَمُ.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of