هل قِيَام رمضان يُكَفِّرُ الذُّنوبَ المُؤَخَّرَةَ مع المُقَدَّمَةِ؟

فاروق عبد الله النَّرَايَنْفُورِي الحديث وعلومه

هل قِيَام رمضان يُكَفِّرُ الذُّنوبَ المُؤَخَّرَةَ مع المُقَدَّمَةِ؟
تخريج حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأَخَّر».


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين, أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, أما بعد.
فهذا بُحَيْثٌ في تخريج حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذنبه», ووَقَعَتْ في بعض رواياته زيادة «وما تَأخَّرَ», حاولتُ أن أبحث عن حكم هذه الزيادة؟ هل هي ثابتة أم شاذَّة؟ وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم.
أخرج هذا الحديثَ الإمامُ النسائي في «سننه الكبرى» (3/127, ح2523) عن قتيبة بن سعيد,
وابنُ عبد البر في «التمهيد» (7/105) من طريق حامد بن يحيى البلخي,
والحافظُ ابنُ حجر في كتابه «الخِصَال المُكَفِّرَة للذُّنوب المُقَدَّمَة والمُؤَخَّرَة» من طريق هشام بن عمار (ص46), والحُسَيْن بن الحَسَن المَرْوَزي (ص46),
وأبو بكر ابنُ المُقرئ في «فوائده» كما في «الخصال المُكَفِّرَة» (ص44) من طريق يوسف بن يعقوب النجاحي, كلهم (وهم: قتيبة, وحامد, وهشام, والحسين, ويوسف) عن سفيان بن عُيَيْنة, عن ابن شهاب الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».
وإسناده ظاهرُه الصِّحَّة؛ فإن رجاله ثقات, إلا أنَّ ابن عبد البر استَنْكَرَ زيادة قوله: «وما تأخَّرَ», حيث قال: "هكذا قال حامد بن يحيى عنه –أي: عن ابن عُيَيْنَة- : «قام رمضان», ولم يَقُلْ: «صام», وزاد: «ما تأَخَّر», وهي زيادة مُنْكَرَةٌ في حديث الزُّهْري”.
أما الحافظ المُنْذِرِيُّ فَصَحَّحَ إسنادَه بقوله: "انفرد بهذه الزيادة قُتَيبة بن سعيد عن سفيان, وهو ثقة ثَبْتٌ, وإسناده على شرط الصحيح, ورواه أحمد بالزيادة بعد ذكر الصوم بإسناد حَسَن إلا أن حَمَّادًا شَكَّ في وصْله أو إرساله”. «الترغيب والترهيب» (2/ 54, ح1472).
وتعقَّبَ الحافظُ ابنُ حَجَر ابنَ عبد البر استنكارَه هذه الزيادةَ بقوله: "لم يُصِبْ ابنُ عبد البر في الحَمْل على البلخي, فإنه لم ينفرد بذلك كما تَرَاه …. -إلى أن قال- : هؤلاء خمسة من ثقات أصحاب ابن عُيَيْنة يَبْعُدُ غايةَ البُعْد أن يَتَوَاطَئُوا على زيادة لم يُحدِّثْهم بها شيخُهم”. «الخصال المكفرة» (ص43-45).
كذا قال رحمه الله, والذي يظهر –والعلم عند الله- أن ما استنكره ابنُ عبد البر هو الصَّواب, فإن أكثر أصحاب ابن عيينة خالَفوا من زاد في حديثه: «وما تأَخَّرَ», وهم أجِلَّة تلاميذه وأخصُّهم, وأبْصَرُهم في حديثه من غيرهم, وهم:
الحُمَيديُّ في «مسنده» (2/186, ح980), و(2/216, ح1037),
والشافعيُّ في «السنن المأثورة» (ص232, ح167),
والإمامُ أحمدُ في «مسنده» (12/225, ح7280),
وعليُّ بنُ المديني عند البخاري في «صحيحه» (3/45, ح2014),
ومَخْلَدُ بنُ خالد عند أبي داود في «سننه» (2/49, ح1372),
وابنُ أَبي خَلَف عند أبي داود في «سننه» (2/49, ح1372),
ومحمدُ بن عبد الله بن يزيد عند النسائي في «الكبرى» (2/49, ح1372),
وإسحاقُ بنُ راهوية عند النسائي في «الكبرى» (3/128, ح2525),
وقُتَيبةُ بنُ سعيد عند النسائي في «الكبرى» (3/127, ح2524) -ورد عنه بالزيادة وبدونها-,
والحَسَنُ بنُ محمد بن الصباح الزعفرانيُّ عند البغوي في «تفسيره» (1/202).
وابنُ المُقرئ عند ابن الجارود في «المنتقى» (ص108, ح404),
وأبو خَيثمة زُهَيرُ بنُ حرْب النسائي عند أبي يعلى في «مسنده» (10/369, ح5959),
وعَمرو بنُ علي الفلَّاس عند ابن خزيمة في «صحيحه» (3/195, ح1894),
وعبدُ الجبَّار بنُ العَلاء عند ابن خزيمة في «صحيحه» (3/334, ح2199),
وسعيدُ بنُ عبد الرحمن المخزومي عند ابن خزيمة في «صحيحه» (3/334, ح2199),
وأبو عثمان عَمرو بنُ محمد الناقد عند ابن عبد البر في «التمهيد» (7/104),
وأبو بكر بن أبي شيبة عند ابن عبد البر في «التمهيد» (7/104),
ومحمدُ بنُ يحيى بن عمر الطائي عند ابن عبد البر في «التمهيد» (7/104), كلهم (وهم ثمانية عشر) رَوَوْهُ عن سفيان بن عيينة به, دون أن يَذْكُرُوا: «وما تَأَخَّرَ».
ولا شكَّ أن روايتهم مقدمة على من زادوها في حديثه, فإنهم أكبر عددًا, وأكثر حفظًا وضبطًا, وهم ثقات مشهورون من أخصِّ تلاميذ ابن عُيَينة رحمه الله, خاصةً الإمام الحُمَيديُّ, فإنه رئيس أصحابه وأثبَتُ الناس فيه كما قال أبو حاتم الرازي, وكيف لا يكون ذلك فإنه لازَمَه مدةً طويلةً, يقول رحمه الله عن نفسه: "جالَسْتُ ابنَ عيينة تسع عشرة سنة أو نحوها”, وكذلك الإمام أحمد, فإنه مع قوة ضبطه وجلالة قدره يقول عن هذا الحديث: "سمِعتُه أربع مراتٍ من سفيان”, وكذلك علي بن المَديني إمام هذا الفن, وقد قال عند تحديثه: "حَفِظْنَاه، وإنَّما حَفِظ من الزُّهْري”, وقد اختار البُخاريُّ طريقه, وغير ذلك من الأدلَّة. انظر: «الجرح والتعديل» (5/57), و«مسند أحمد» (12/225, ح7280).
فالراجح عن ابن عيينة –والله أعلم- عدم ثبوت هذه الزيادة, وما استنكره ابنُ عبد البر حَالَفَه الصَّوابُ, وجانَبَ ذلك الحافظَ ابنَ حجر في تعقيبه إيَّاه, ولو تنازلنا على قوله رحمه الله, وأثبتنا هذه الزيادة عن ابن عيينة, لا تَثْبُتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم, فإن أصحاب الزهري اتَّفَقُوا على عدم ذكرها عنه, منهُم:
مالكُ بنُ أنس في «مُوَطَّئِه» (1/170, ح300), وعقيلُ بنُ أبي خالد عند البخاري (3/44, ح2008), ومعمرُ بنُ راشد عند مسلم (1/523, ح759), وشُعيبُ بنُ أبي حمزة عند النسائي في «الكبرى» (3/125, ح2517), وصالحُ بنُ أبي صالح السَّمَّان عند النسائي (ص 348, ح2196), ويونسُ بنُ يزيد الأيلي عند النسائي في «الكبرى» (3/125, ح2515), وغيرهم.
فهم أكبر عددًا وأكثر حفظًا وضبطًا من ابن عيينة, وهو وإن كان ثقةً حافظًا فقيهًا إمامًا حجةً كما قال الحافظ ابن حجر؛ لكن لا تُرَجَّحُ روايتُه على رواية الجماعة, وهم ثقات وحفاظ مشهورون, خاصةً فيهم مالك بن أنس, وهو أثبَتُ الناس في الزهري كما صَرَّحَ بذلك غير واحد من الحُفَّاظ, منهم: يحيى بن سعيد القَطَّان وابن مَعين وأحمد وأبو حاتم الرازي والجوزجاني, وآخرون ذَكَرَهم الحافظ ابنُ رجب في «شرح علل الترمذي», وقال: "وذكَر الفَلَّاس أنه لا يُخْتَلَفُ في ذلك”. انظر: «التقريب» (رقم الترجمة 2464), و«شرح علل الترمذي» لابن رجب الحنبلي (2/479-482) و(2/479).
وسُئِل ابن مَعين: من أثبَتُ من روى عن الزهري؟ فقال: "مالك, ثم معمر, ثم عقيل, ثم يونس, ثم شعيب, والأوزاعي والزُّبيدي وابن عيينة كل هؤلاء ثقات”. «سؤالات ابن الجنيد» لابن معين (ص308) رقم الترجمة (147).
فابن معين قَدَّم كُلًّا من مالك ومعمر وعقيل ويونس وشعيب على ابن عيينة, وجميعهم خالَفُوه في ذكر هذه الزيادة.
أما عليُّ بن المديني فكان يُقَدِّم ابنَ عيينة على مالك في الزهري, فناظَرَه الإمام أحمد في ذلك, وذكر له نحوًا من عشرين حديثًا أخطَأ فيه ابن عيينة عن الزهري, ثم قال له: هات ما أخطأ فيه مالك, فجاء بحديثَيْنِ أو ثلاثة. «العلل ومعرفة الرجال» لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/349).
وابنُ عيينة لمَّا سمِعَ من الزهري كان غلامًا صغيرًا ابن عشر سِنِيْنَ, وتكَلَّم الجوزجاني في حديثه عن الزهري, حيث قال: "في حديثه عن الزهري اضطراب شديد”. «شرح علل الترمذي» (2/481).
وشُعيبُ بن أبي حمزة كذلك ذكر ابن معين أنه من أثبَتُ الناس في الزهري وكان كاتبًا له, وقد رَوى الحديث عنه بدون الزيادة. «سؤالات ابن الجنيد» لابن معين (ص394) رقم الترجمة (507).
فالرَّاجح عن الزهري –عند تسليم قول الحافظ ابن حجر رحمه الله- ما رواه عنه الجماعة, وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه», دون زيادة قوله: «وما تأخر», والله أعلم وعلمه أتمُّ وأحكم.
وقد تابَع الزهريَّ عن أبي سلمة على عدم ذكر الزيادة ثلاثة آخرون, وهُم:
يحيى بنُ أبي كثير عند مسلم في «صحيحه» (1/523, ح760),
ويحيى بنُ سعيد عند ابن ماجه في «سننه» (2/558, ح1641),
ومحمدُ بنُ عَمرو بن عَلْقَمَة اللَّيثي, وقد اختُلِف عنه, فرواه حمَّاد بنُ سَلَمَة عنه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بالزيادة, أخرجها الإمام أحمد في «مسنده» (14/547, ح9001),
وخالَفه عبدةُ بنُ سليمان وعبدُ الرحمن بن محمد المحاربي عند الترمذي في «جامعه» (3/58, ح683),
و محمد بن بِشْر العَبدي عند ابن ماجه في «سننه» (2/352, ح1326),
و ثابت بن يزيد الأحول عند ابن حبان في «صحيحه» (8/437, ح3682), كلهم عن محمد بن عَمرو، بهذا الإسناد دون قوله: «وما تأخَّر»، فقد انفرد بها حمَّاد بن سلَمة، عن محمد بن عَمرو.
فالصواب عن محمد بن عمرو دونها.
وقد حسَّنَ روايةَ «المسند» بالزيادة الحافظُ المنذريُّ والعراقيُّ رحمهما الله, وتبيَّن لنا بالتفصيل المذكور أنها شاذَّة. انظر: «الترغيب والترهيب» (2/54), و«التقريب» بشرحه «طرح التثريب» (4/160).
وكذلك أبو سلَمة تابَعَه عن أبي هريرة على عدم ذكر هذه الزيادة حُمَيدُ بنُ عبد الرحمن عند الشَّيْخَيْن في «صحيحَيْهما». صحيح البخاري (1/16, ح37), وصحيح مسلم (1/523, ح759).
فالصواب في هذا الحديث عدم ذكر قوله «وما تأخَّر», وهي زيادة شَاذَّةٌ, والله أعلم وعِلْمُه أتَمُّ وأحْكَمُ.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of