تخريج حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تَسَوَّكَ وهو صائم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين, أشهد أن لا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, وبعد.
لقد كَثُرَت الأحاديث الواردة في فَضْل السواك والحثِّ على استعماله, وصَنَّف فيه العلماء قديمًا وحديثًا, وأطال الكلام فيه العلامة ابن المُلَقِّن رحمه الله في «البَدْر المُنِير», وذكر فيه أكثرَ من مئة حديث, ثم قال في آخره: "هَذَا آخر مَا قصدته, وإبراز مَا أردته, فِيمَا يتَعَلَّق بِالسِّوَاكِ، وَهُوَ مُهِمّ جدًّا، وَقد اجْتمع بِحَمْد الله وعونه من الْأَحَادِيث من حِين شرع المصنّف فِي ذكر السِّوَاك إِلَى هَذَا الْمَكَان زِيَادَة عَلَى مئَة حَدِيث كلّها فِي السِّوَاك ومتعلقاته، وَهَذَا عَظِيم جسيم، فواعجبًا سنة وَاحِدَة تَأتي فِيهَا هَذِه الْأَحَادِيث ويهملها كثير من النَّاس بل كثير من الْفُقَهَاء المشتغلين, وَهِي خيبة عَظِيمَة نسْأَل الله المعافاة مِنْهَا”. [«البدر المنير» (2/68)]
واستدلَّ بها العلماء على جوازه للصائم؛ لأنها لم تُفَرِّقْ بين الصائم وغيره, نعم هناك أحاديث مرفوعة خاصَّة ورَدَتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وهو صائم في دواوين السنة المطهرة؛ لكن لم يَثْبُتْ منها شيء حَسْبَ علمي, والله أعلم.
ورأيتُ بعضَ الإخوة يُصَحِّحُ حديثَ ابن عباس رضي الله عنهما «أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم تسوَّك وهو صائمٌ» اعتمادًا على أَحَد أسانيده, والذي ظاهِرُه الصِّحَّة, ويَتَبَيَّنُ بعد جَمْعِ طُرُقِه أنه مُعَلٌّ, وليس بمحفوظ, فأَحْبَبْتُ أن أُبَيِّنَ عِلَّتَه في هذا المَقال المختصر, فأقول وبالله التوفيق:
أخرجه أحمدُ بن مَنيع في «مسنده» كما في «المَطالب العالية» (6/131, ح1066) و«التَّلخيص الحَبير» (1/114) عن الهَيْثَم بن خارِجة، عن يحيى بن حمزة، عن النُّعمان بن المُنذِر، عن عطاء، وطاوُس، ومجاهد، عن ابن عبَّاٍس رضي الله عنهما أن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم تسوَّك وهو صائمٌ.
ومن طريق أحمد بن مَنيع أخرجه ضياء الدين المقدسي في «الأحاديث المختارة» (11/229, ح225), وأشار إلى اختلاف لفظه في قوله «وهو صائم».
وأحمد بن مَنيع وإن كان ثقة فقد خالَفَه ثلاثة من ثقات أصحاب الهيثم بن خارجة, وهم:
1- ابنُ سعد في «الطبقات الكبرى» (1/446), فقد رواه عن الهيثم بن خارجه به, بلفظ: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وهو مُحْرِمٌ من وجع وسُئِل: أ تَسَوَّكَ النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحْرِمٌ؟ قال: نعم.
2- أبو حاتم محمدُ بنُ إدريس الرازي, فقال: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ به بلفظ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَسُئِلَ: تَسَوَّكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ : نَعَمْ.
أخرجه عنه ابنُ خُزَيمة في «صحيحه» (4/186, 2655), وتَحَرَّفَتْ نِسبَة أبي حاتم "الرَّازي” في بعض الطبعات إلى "الدَّارمي” كما قال الشيخ محمود محمد خليل في «المسند المصنف المُعَلَّل» (12/159), وجاءَتْ على الصواب عند الحافظ ابن حجر في «إتحاف المهرة» (7/261).
3- محمدُ بن إسحاق الصَّغَاني, فرواه عن الهيثم بن خارجه به, بلفظ: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحْرِمٌ من وجع , وهل تَسَوَّك النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحْرِمٌ؟ قال: نعم.
أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/103, ح9150) فقال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب , حدثنا محمد بن إسحاق الصَّغَاني به.
والإسناد إلى الصَّغاني صحيح.
فهؤلاء ثلاثة من ثقات أصحاب الهيثم بن خارجة يَرْوُوْنَ عنه بأنَّ تَسَوُّكَه صلى الله عليه وسلم كان في حالة الإحرام, وليس في حالة الصيام, وهم أكثَرُ وأضْبَطُ من أحمد بن مَنيع.
وقد تابع الهيثمَ بنَ خارجةَ الحَكَمُ بنُ موسى عند ابنِ سعد في «الطبقات الكبرى» (1/446), وابنِ خزيمة في «صحيحه» (4/186, ح2655), والطبرانيِّ في «الكبير» (11/203, ح11500) والبيهقيِّ في «السنن الكبرى» (5/103, ح9150) والضياءِ المقدسيِّ في «الأحاديث المختارة» (11/229, ح226), فرواه عن يحيى بن حمزة، عن النعمان بن المنذر، عن عطاء، ومجاهد، وطاوُس، عن ابن عباس بلفظ رواية الجماعة.
وقَرَنَ بعضُهم الحَكَمَ بنَ موسى بالهيثم بن خارجة.
فتَبَيَّنَ من هذا أن المحفوظ فيه ما رواه الجماعة وهو أنه صلى الله عليه وسلم تَسَوَّكَ وهو مُحْرِمٌ, أما ما رواه أحمد بن مَنيع فهو شاذٌّ لمُخالَفَته ثقاتٍ من أصحاب الهيثم بن خارجة, والله أعلم.
ولا يُقال فيه أنهما حديثان مُستَقِلَّان تَفرَّدَ بأحَدِهما أحمد بن مَنيع, فإن مَخْرَجَهما واحد, وإلى هذا أشار ضياءُ الدين المقدسيُّ رحمه الله في «الأحاديث المختارة», حيث أخرج روايةَ الحكم بن موسى عَقِبَ رواية أحمد بن مَنيع عن الهيثم بن خارجة مُباشَرةً, وقال بعد إخراجها: "في رواية الهيثم وهو صائم، وفي هذه وهو مُحْرِمٌ”.