من استعرض تاريخَ القلم؛ لاحت له أهميتُه بجلاء, وبانت له عظمتُه بلا مراء؛ فهو أوّل ما خلقه اللهُ من هذا العالَم؛ خلقه قبل خلق السماوات والأرض, فأمره بكَتْبِ ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة, كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عله وسلم.
[انظر: سنن أبي داود, برقم: (4700), والسلسلة الصحيحة للألباني, برقم: (133), ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (18/213)].
وهو من أهمّ أسباب قوام الحياة, وقيام الحضارات, ومن أعظم وسائل تثبيت الحقوق, وتوثيق العقود والعهود, والتعبير عن مشاعر النفوس, ومكنونات الضمائر والصدور, وإيحاءات الأفئدة والقلوب.
وبه سُطّرت تجاربُ الأقوام وتواريخُ الأمم, وخُلّدت أنواعُ المعارف والحِكَم, وبه قُيّدت دواوينُ العلم وأسفارُه, وصحفُ الكون وأقدارُه, وبه حُفظت سيرُ الأسلاف وأخبارُهم, ونتاجُ عقول الأعلامِ وأفكارُهم, فلولا القلم لأُدرجت في طيّ النسيان, وضاعت في غياهب الأزمان.
ناهيك بما أقسم به الخالقُ عزّ وجلّ في كتابه العظيم؛ حيث قال: ((ن, والقلم, وما يسطرون)) [سورة القلم: 1], وبما امتن به على عباده من التعليم بالقلم, فقال: ((اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم)) [سورة العلق: 3-4], فنبّه بذلك على عظمة القلم, وأنّ التعليم به من أجلّ النعم.
فما أحرى بمن أُعطي السَّعْدَ في قلمه, ورأى من نفسه أنه إذا اشتغل به؛ نفع الخلق, ونصر الحقّ, وأصلح الخلل, وأزاح العلل: أن يُقبل على القلم؛ فيُمسك بناصيته, ويسكب عليه من مداد فكره, وإشراقة ذهنه, وعُصارة قلبه, وجنى الليالي الطوال – التي أحياها ساهرًا منكبًّا على القراءة, ومنهمكًا في المطالعة – ما يجعله يفيض بما يجلو الأفهامَ الكليلةَ, ويصقل الأذهانَ العليلةَ, ويهُزّ الهِمَمَ الفاترةَ, ويَؤُزّ العزائمَ الخائرةَ, ويُزيل من النفوس صدأَها وأهواءَها, ويُعالج أمراضَها وأدواءها, ويغرس في داخلها قِيمًا عاليةً, وفضائل أصيلةً, وأخلاقًا نبيلةًَ؛ حتى ترتفع إلى مكانٍ أرقى, وجوٍّ أنقى.
ثم إنّ القلم يجب أن يكون ميزانَ حقّ, ولسانَ صدق, يزن الناس بالأخلاق والقيم, وبالعلم والأدب, وبمصداقية المواقف وواقعية الأهداف, وبالقدرات والكفاءات, والأعمال والإنجازات, وبالأهلية والعِصامِيّة؛ لا بالعِظامّية وعُبِيّة الجاهلية, والانتماءات المصطعنة؛ ولا بالصيت الطائر في المجامع, والاسم الدائر على الألسنة, والشهرة السائرة في الآفاق؛ فالشهرةُ ليست مقياسَ العظمة ولا ميزان الرجال, ما لم يكن من ورائها أعمال نافعة تَشهد, وآثار صالحة تُعهد.
وليتصِّف صاحبُه بحسن القصد, وإخلاص النية, وسلامة الفكر, ووضوح الرؤية, وقوة العارضة ورصانة الحجة. وليحرص على الاضطلاع بأساليب العرب ومناحيها في منظومها ومنثورها؛ وعلى الأخذ بحظٍ وافرٍ من مادتها اللغوية؛ والإلمام الكافي بقواعد العربية؛ فإنّ ((مَن لا يضطلع بأساليب العرب ومناحيها في منظومها ومنثورها؛ سَرَت العجمةُ إلى لسانه، أو غلبته العاميةُ على أمره؛ ومَن قلّ محفوظُه من المادة اللغوية؛ قصرت يده عن تناول جميع ما يريد تناولَه من المعاني؛ ومَن جهل قانونَ اللغة؛ أغمض الأغراضَ وأبهمها، أو شوّه جمالَ الألفاظ وهجّنَها)). [النظرات للمنفلوطي: 1/ 39].
وليتحلّ أيضًا بالموضوعية والحيادية في الطرح؛ والعدالة والإنصاف في المناقشة والردّ؛ والنزاهة والعِفّة في الحوار والنقد؛ والأصالة والاستقلال في الفكر والأسلوب, وليربأ بنفسه عن التبعية والمجاراة لغيره, فيفقد خصوصيته واستقلاليته, ويُذيب شخصيتَه في شخصية غيره, فيصير إمّعةً له يصدر عن إملاءاته وإيحاءاته.
وليبتعد عن لغو الحديث وسفاسفه, وساقط الكلام ومرذوله, وعن الإقدام على الكتابة قبل التروي والتدبُّر, وإلقاء الكلام على عواهنه قبل التأني والتفكّر؛ فيفقد وزنه وأثره, ويعود كَلًّا على كاتبه, ووبالًا على قارئه؛ يذوق مرارته, ويتجرّعها, ولا يكاد يُسيغها.
وليحذر من المراوغة والمداجاة كالثّعلب؛ فيُسِرّ حَسْوًا في ارتِغاء, ومن التلوّن والتقلُّب حسب الظروف والمصالح كالحِرباء؛ فيكون كالتي نقضت غزلها من بعد قُوّةٍ أنكاثًا؛ فَشَرَفُ القلم يأبى إلا أن يكون صاحبُه حُرًّا شريفًا, يتمتّع بالثبات على المبادئ والقيم مهما كانت المتغيّرات, وبالإباء والشَّمم والشجاعة في الحقّ مهما ادلهمّت الأوضاع, واكفهرّت الأجواء.
فما أجدر بصاحب القلم أن يستشعر شرفَ القلم وحُرمتَه فيرعاها, ولا ينتهكها؛ وعظمتَه وقداستَه فيحافظ عليها, ولا يُدنّسها؛ وأن يُقدّر سُموَّ غايته فيسعى إلى تحقيقها وتكميلها؛ ونُبلَ رسالته فيهدف إلى تبليغها وتفعيلها؛ وأن يستحضر خطورةَ مسؤوليته فيُعدّ لها عُدّته؛ وثقلَ تبعته فيجمع لها هِمّته.
ثم ليعلم أنّ القلم أمانةٌ في عنقه يُسأل عنها يوم القيامة؛ فليراقب الله تعالى في كل ما تخطّه يمينه, ويجري به قلمه, وليتذكّر موقفه بين يدي ربه؛ فلا يكتب به إلا ما يَسُرّه في القيامة حينما يراه, وما أجمل قول القائل:
وما مـن كاتب إلا سيفـنى
ويَبقَى الدّهرَ ما كتبت يـداه
فلا تكتـب بكفّك غير شيء
يسرّك في القيـامة أن تـراه
فإن آنست من نفسك يا هذا, أنك إذا أمسكت القلم ببنانك؛ أعطيتَه حقَّه, وأدّيتَ واجبَه, وابتعدتَ به عما يَشينُه, ويُهينُه؛ فليهنأ لك القلم, وليُبارَك لك في صولاته وجولاته, وغدواته وروحاته؛ وإلا فما أجدرك بأن تكسره, فتُريحَ الناسَ من غَثّه وغُثائه, ومُجَاجِه وأُجَاجِه؛ أو أن تُعيده إلى غِمده حتى تتعرّف مواقعَ استعماله, ومواضعَ اعتزاله.
فإن أبيت إلا البقاء على حالك, والاستمرار على منوالك؛ فاعلم أنه بعد قليل ينكشف البَهْرَجُ, وينكبّ الزَّغَل, ويُصرّح المحضُ عن الزَّبَد, فتتبدّى للناس السَّوْآت والعورات, فتعضّ حينئذ أصابعَ الندم, ولات ساعةَ مَندم.
هل القلم أول مخلوق ؟ كما ذكر في بداية المقال أو العرش أو الماء٠ انظر الجواب على الرابط للفائدة. https://gourl.page.link/qBRX