صوت من قلب محزون

عبد الرحمن لطف الحق مرشد آبادي

إن جاهليتنا قد أتت مثلما أتت الجاهلية الأولى من الجرائم والفواحش والمنكرات ، بل أربت على ما أتت وزادت. إن الجاهلية الأولى كانت تئد البنات وهي صبية، ولكن جاهليتنا الأخرى بعد قتلها وهي جنين أرسلت من العقارب والحيات والثعابين ما لا تزال تلدغ كل بنات حواء، فتتأذى بلدغها، وتموت بلسعها، وذهبت تلتمس راحتها في الموت، وسكونها في الانتحار.
إن الناس في الجاهلية الأولى كانت تظل وجوههم مسودة، وتغشى محياهم قترة، إذا بشر أحدهم بالأنثى خوفا للعار، وفرارا من الفضيحة وخلاصا من الخذلان، ولكن الناس في جاهليتنا الأخرى تغشى وجوههم السحابة السوداء من الحزن والكمد، إذا بشر أحدهم بالبنات، لا خوفا للعار، ولا فرارا من الفضيحة، بل خشية أن بنته تدفنه في التراب، وتلصقه بالرغام، وتسبب له الفقر والبؤس، خشية أنها تذهب بجميع ما تملكه يده من الثروات والأموال، فيعمد آباء البنات إلى إجهاض الجنين إن علموا أنها أنثى قبل أن تقتل بناتهم بأيديهن.
إن الابكار اللائي تؤويهن بيوت عائلة، وتربيهن أحضان معسرة، وتنشئهن مهود معوزة، يؤثرن أن يشربن سما أو يتوجأن بحديدة في بطونهن أو يتردين من جبل ، فيقتلن أنفسهن ، على الدموع التي تنهمر من عيون آبائهن، وتنحدر على خدودهم لعجزهم عن تزويج بناتهم لغلاء جهاز العروس، وعلى أن يرين وجوه آباءهن تتلبد بغيوم الحسرة اللاذعة من أجلهن، ويقلن في أنفسهن لم لا نؤثر الموت على بؤس آباءنا وذلهم !
هناك جهود جبارة بذلت لمنع هذه التقاليد الملعونة، وغرست أشجار باسقة حتى ينجو المجتمع من هذه التقاليد المبيدة، ويتفيأ بوارف ظل هذه الأشجار الباسقات، ولكن ضوت أغصانها، وذوت أوراقها، وذبلت أزهارها، وأثمرت ولكن حنظلت ثمارها، وأتي المجتمع الجاشع على أصلها وبنيانها.
والحقيقة أنه ليس هناك سلاح لمنع هذه التقاليد إلا سلاح واحد، وهو الإيثار والتضحية.
يا رجال المجتمع ! إذا كانت نساؤكم يستطعن أن يتجرعن كل كأس يؤدي إلى القضاء على أنفسهن لئلا يرين العبرات التي تفيض من عيون آباءهن، و لئلا يرين الفقر الذي يدفع آباءهم إلى الكفر، والبؤس الذي يجرهم إلى الذل، فكيف – وأنتم رجال- تقدر عيونكم على رؤية الدموع الجارية على وجوه إخوانكم!
يا رجال المجتمع! هل تفكرتم كم جنت أياديكم الآثمة على نفوس بريئة؟ وكم بائسات عائلات ثيبات أبكارا ، دفعتموهن إلى آبار الموت دفعا؟
وأذكر هناك حادثة مؤلمة نشر خبرها إمام الهند مولانا أبو الكلام آزاد في مجلته الشهيرة ” الهلال” ، ذكر فيها قصة امرأة بنغالية تنتمي إلى أسرة فقيرة معدمة، أنهك أباها الحزن المتواصل ، والتفكير المستمر في شأن تزويجها، لأنه كان يعجز عن تقديم ما يطلبه آباء الأبناء من جهاز العروس لقلة المال، وضيق اليد وكثرة الطلب. وكان يحمل في سبيل ذلك من الهم ما يطيل سهره، ويقلق مضجعه، ويحول بينه وبين قراره. فقامت هذه البنت في ليلة مظلمة وأحرقت بدنها بالنار، وكتبت هذه البائسة المسكينة قبل أن تحرق بدنها رسالة لينفد المجتمع الجائر ماء الشؤون عند كل كلمة سطرتها يد هذه المظلومة البائسة، فكتبت ” يا أبي الحنون ! إني وجدت منك أنك توفر لي كل لذة من لذائذ العيش، وتختار أنت لنفسك الفقر المدقع والغرم المفظع، ألست أنت الذي ربيتني في حضن الحب والمودة، وفي مهد العز والسرواة، ونزلت عند كل رغبة من رغباتي، ثم كيف تنتهي بتضحية نفسك في سبيلي، فالأولى لي أن أضحي بنفسي بتحريق جسدي” ( مجلة الهلال: 11 مارس 1914م)
فيا أبناء هذا المجتمع ! لم تسمعون عويل البكاء، وصريخ النياحة من بيت كان المفروض أن تسمعوا منه صوت الدف والأغاني في يوم العروس والزواج ! ولم ترون الثياب البيض تلف في بدن المسكينة مكان أن تروا الجوهر الساطع والذهب اللامع والحلل المدبجة في بدنها الناعم ! ولم ترون الجموع الحاشدة تصلي عليها بدل أن تروا هذه الجموع يهنئ بعضهم بعضا ويبشر قرين قرينا ببشارة عرسها ! ولم ترون الوجوه مقطبة، والعيون باكية، والقلوب حزينة بدل أن تروا الوجوه مشرقة، والثغور باسمة، والقلوب بهيجة !
من حول عرسها إلى جنازة، وعيدهم إلى نياحة، وضحكهم إلى بكاء، وفرحهم إلى حزن ؟
فمن يحمل أثقالها وأوزارها؟ وإلى من يرجع هذا الذنب؟
من هم إلا أنتم، لأن هذا ما قدمته أيديكم الآثمة، وكسبته قلوبكم الجشعة.
فيا من يسرف على نفسه، و يا من يمتص دم غيره، و يا من يجلب غضب ربه، كيف تقوم أمام رب العالمين يوم الحساب بهذا الجبين المسود من الإثم، وبهذا الوجه المحمر من الجل، وكيف بك إذا جاءت المظلومة المقتولة تشكو ربها ظلمك؟ وكيف بك إذا جاء ربك بزوجتك المقتولة بيدك تسأل ربها عن ذنب قتلها ، فما ظنكم برب العالمين ؟
يا رب ! إذا أصبح دم الإنسان أهدر من الدنانير، وأحقر من الدراهم، وأرخص من الأموال، وإذا بلغت قسوة الرجل إلى قتل زوجته التي تشاطره في همه وغمه، وأنيسته التي تطيعه إذا أمر، وتسره إذا نظر، لتافه من الدنيا ، فاقض بيننا إنما أنت قاض.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of