لقد من الله علينا إذ وفقنا للدراسة في بلاد الحرمين الشريفين، وفي الجامعات العالمية المرموقة. وقد حُرم من هذا الفضل الآلاف، منهم من هو أفضل منا علما وفهما، ومنهم من هو أكثر استحقاقا منا للدراسة في هذه الجامعات، ولكن أمر الله كان مفعولا؛ فاختارنا نحن لكي ننهل من مناهل العلم والعرفان، ونتنور بنور العقيدة والإيمان، ونتنفس في أجواء الأمن والسلام، ونتلذذ بصنوف الأكل والشرب براحة البال، ونعيش في ظلال الرحمن بهدوء واطمئنان.
أيها الإخوة الأعزاء: هذا الاختيار، وهذا الفضل العظيم يتطلب منا الشكر والامتنان لله تعالى على كل حال. ويوجب علينا أن نحاسب أنفسنا، ونتساءل هل حققنا ذلك الهدف السامي الذي تركنا لأجله الأوطان؟ هل نسعى جاهدين لتحقيق التمكن من التخصص والقدرة على ما اخترنا من الموضوعات؟ يُقبل واحد منا في هذه الجامعات فيقضي سنتَينِ، وأربع سنوات أو ربما خمس عشرة سنة أقل منها أو أكثر، فهل يتخرج من بيننا متخصص حقا في مجاله، متمكن من مساره، يستطيع إلقاء محاضرة علمية، أو شرح تخصصه بكل جدارة؟ وهل يستطيع كتابة بحث، أو يقوم بدراسة نقدية وفكرية لما تخصص فيه؟ هل تعرّف على الأقل خمسين كتابا من أمهاته وفروعه فيما يتعلق بتخصصه، ويحفظ أسماء تلك الكتب ومؤلفيها، والمناهج التي سلكوها، وأهم ما جاء فيها، وخلاصة تلك الكتب التي يتأسس عليها ذلك التخصص وكذلك الاطلاع على ما كتب من بحوث ورسائل بهذا الصدد؟ فهناك أسئلة لا تكاد تنتهي. ومن السهل أن يقول قائل: أننا نعيش في زمن التقنيات المتقدمة فلا حاجة إلى ما تثير من الأسئلة.
أيها الأعزاء: رغم توفر التكنولوجيا ووسائل تقنيات التعلم والتعليم، ما زال السؤال يطرح نفسه: فهل أنت متمكن من تخصصك بعد قضاء سنوات في هذا المجال؛ لأن العلم "ما وقر في الصدور”.
إذا كنت تتذكر هدفك الأساسي لمجيئك هنا؛ فحاسب نفسك، ولا تلتفت إلى آخر فتطمئن. اسأل نفسك، واستفت قلبك: ما مستوى قدرتي وتمكني من تخصصي؟ ولا تغتر في هذه المرحلة بما تحقق من درجات عالية، ومراكز متقدمة في الصفوف الدراسية؛ لأن الذي يفيدك، ويثبت شخصيتك، ويجعل منك مفسرا، أو محدثا، أو فقيها، أصوليا، أديبا، مفكرا ومبدعا هو علمك وتخصصك الذي استوعبته، وسبرت أغواره، واستطعت نقده وتحليله، وتسلحت بقوة الاستدلال ودقة الاستنباط في ذلك. فكّر مرارا وتكرارا، ولا تضيع هدف النبيل بما لا فائدة فيه، واستثمر أوقاتك فيما يعود بالخير عليك.
أيها الزملاء الكرام: بعد أن بدأت الدراسة في الكلية، وشرعت في تخصصك؛ فاقرأ في هذا المجال ما شئت ولا تتوقف. اطلع على أمهات الكتب وفروعها وما كتب فيها في عصرنا هذا. وحاول قراءتها بفهم وتدبر بكل ما أوتيت من علم ووسائل تعليمية.
وإذا كنت في الدراسات العليا؛ فالمطلوب منك القيام بما يلي:
• اطلع على خمسين كتابا على الأقل فيما يتعلق بتخصصك من أصوله وفروعه.
• حاول أن تطالعها كاملة.
• حاول أن تفهمها فهما صحيحا وكاملا.
• اقرأها قراءة نقدية وتحليلية.
• حاول للاستنتاج الفكري والاستدلال العلمي مما تقرأ.
• بعد الانتهاء من كتاب، سجل عندك اسمه، ومؤلفه، ومنهجه، وخلاصة ما جاء فيه.
• حاول أن تكتب بهذا الموضوع قدر الإمكان بكلماتك وأسلوبك.
• حاول أن تسجل معلوماتك وأفكارك واستنتاجك وملاحظاتك بشكل مرئي أو مسموع، وتعود لسماعه، وقم بتصحيحه و تحسينه إن دعت الحاجة إليه.
• ابحث عن فرصة لإلقاء محاضرة في تخصصك، بادر بتوعية الآخرين بما لديك من معارف. وشارك بما لديك من معلومات للآخرين.
إذا فعلت هذا بنية خالصة فأنت تصبح إن شاء الله متمكنا من تخصصك، وأنت الشخصية الفريدة يشار إليها بالبنان، يرجع إليك الناس للاستفادة من علمك ويتبادرون لتوظيفك عندهم.
بعد هذا وذاك، اقرأ قراءة حرة ما شئت، مما يزيد من معلومات، ويوسع في قاموس موسوعتك. وإذا قرأت كثيرا وغزيرا، وذخر ذهنك علما وفكرا، يأتي دورك للكتابة والإبداع، فكلما أكثرت من القراءة، ازددت كتابة وتعبيرا وإبداعا. وكلما أكثرت من الاستماع ازددت تحدثا وإلقاء. ويكون لك نصيب أوفر في الدينا والآخرة إن شاء الله. اترك بصمة في الحياة، وكن حامل لواء التغيير للأفضل.
ولا أزكي نفسي، وأرجو للجميع خيرا.
وأدعو الله تعالى للتوفيق والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نفع الله بك العباد والبلاد