[حضرة صاحب السعادة المدير المكرم /حفظكم الله ورعاكم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرجو من الله تعالى أن تكونوا بخير وعافية وصحة جيدة مع أسرتكم الكريمة، وبعد:
فأحيط بسعادتكم علماً بأن هذا المقال الموسوم ب ” ثمرات الوسطية” قد حقق الجائزة الثانية في مسابقة مقال على مستوى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة التي نسقها كرسي الإمام محمد بن عبدالوهاب للوسطية ودراساتها بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ونظراً إلى أهمية المقال وعظم شأنه وتحقيقاً للإفادة العامة بين الأوساط العلمية والناطقين بالعربية وقرائها، المأمول من سعادتكم التكرم بنشر هذا المقال في مجلتكم الغراء، ودمتم جزيل الشكر.
وتقبلوا مني فائق الاحترام والتقدير، وجزاكم الله خيراً وبارك فيكم، وأدام توفيقكم لكل خير].
(محمد هاشم بشير أحمد المدني)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمما لا ريب فيه أن الوسطية الإسلامية الحقة تمنح العدل في الحياة، والتوازن في العبادة والشخصية، والاعتدال في الدعاء، وتعترف بالحرية للآخرين، وتأخذ المسلم إلى العزة وتحذره من الكبر، وتدعوه إلى الخوف من الله دون أن تحطم أمله في رحمته سبحانه وتعالى، وتدفعه إلى التعاون مع أمم وحكومات في أشياء مشتركة كحقوق الإنسان، والأعمال الإنسانية الخيرة، والحفاظ على البيئة، ومحاربة العنصرية والفقر دون أن تخدش ثوابت الإيمان.
وبالجملة: أنه لا ثقافة فاعلة وواقعية بدون الوسطية، حيث إنها تفعل النخب الاجتماعية، وتحمي ثقافة الأمة وهويتها، وتطلق الإرادة السياسية، وتضع البنية الأساسية الفكرية لحماية الوطن واستقراره، وتُجدد آليات حركة الإسلام وتطبيقاته وتربطه باليوم والغد، وأهل الوسط في دائرة بعيدة عن الأهواء والعواطف والجهل والاستعجال، وشعارهم ” لا تجد إسرافاً إلا وإلى جانبه حق مضيع”، ومن الصعوبة في هذه العجالة الوجيزة استعراض جميع ثمرات الوسطية ومغذياتها وفوائدها، ولكن أذكر بأبرزها وأشهرها على سبيل الإيجاز لا على سبيل الحصر، والإشارة إلى بعضها يذكر بالأخرى … وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه وأنيب.
الثمرة الأولى من ثمرات الوسطية: التوازن: مما لا شك فيه أن الإسلام نظر إلى الإنسان بوصفه كائنا متكاملا ومتوازنا ومترابطا، فلا انفصال بين عنصر الطين فيه وعنصر الروح، ليس جسدا خالصا، ولا روحا خالصة، ولا انفصالا بين شعوره وسلوكه، ولا مُثله وواقعه، ولا عقيدته وشريعته، ولا دنياه وآخرته، لذا فإنه لابد من التوازن الروحي الذي يدل على الانسجام الذهني والسكينة المستمرة المعتمدة أساساً على ممارسة العبادات والشعائر الدينية، التي تدعم الاتصال بالخالق جل وعلا، وهو يعبر عن حاجة الفرد الدائمة للارتباط بخالقه سبحانه وتعالى[روعة التوازن في الإسلام لسائد عبد المجيد البرغوثي:19] لقد وازن الإسلام بين كل هذه الجوانب، فمنع المجتمع من أن تختل مفاهيمه وحياته كما اختل التوازن في الجاهلية الحديثة التي جعلت الجانب الاقتصادي الركيزة الأولية للحياة، سواء أكان ذلك في الرأسمالية أم الشيوعية، مع إهمال الدين والقيم والأخلاق[الصراع بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي لمحمد قطب، صـ 7-8] فالأزمات التي يعاني منها الغرب في كل الوجوه تؤكد الحاجة الماسة إلى التوازنات الدقيقة، التي جاء بها الإسلام، فتوازنات الحياة تشبه التوازنات في عالم الطبيعة، التي إن اختلت فسدت، فكذلك توازنات الحياة البشرية إذا اختلت فسدت معالم هذه الحياة، إن بناء المجتمع المتوازن لايقوم إلا على بناء الفرد المتوازن، فمثل هذا الفرد لا يعتدي على حقوق الآخرين؛ لأن الاعتداء إنما ينشأ عن الإسراف، والفرد المتوازن لاسرف في جوانب حياته كافة (الإنسان بين المادية والإسلام لمحمد قطب، صـ 129)، وبذلك تتشكل إحدى الضوابط الأساسية في حفظ حقوق المجتمع، إنه الفرد المتوازن.
الثمرة الثانية: التسامح: إن المسلم الوسطي الصادق هو وحده الذي يقدم خاصية التسامح الإسلامي على أرض الواقع، بمنطلقاتها القرآنية الواضحة المتمثلة في رسالته العالمية إلى العالم أجمع، وما فيها من عدل وسلام وتعايش سلمي بين البشر في ظل حقائق شرعية معتبرة.
وتبدو إشراقات التسامح في الإسلام جلية في موقفه من الأقليات، وفي قبوله للتعددية، وفي دعوته لحق الاختلاف، وإقراره لحرية الاعتقاد، مع وجود حدود واضحة وقوية ما بين التسامح والتفريط، فالتسامح سلوك وثقافة عند المسلمين، ينطلق من خصائص دينهم وهويتهم، ويجذره الالتزام بالعدل كحد أدنى في التعامل مع الآخر، وإن ارتقى إلى الإحسان والبر فخير وبركة، والنصوص والتطبيقات أكثر وأكبر من أن تحصى، والنظرة إلى مجمل المجتمعات الإسلامية تؤكد أن الفعل الجماعي يؤمن بالتسامح ويعمل به.
وكل من طعنات نجلاء لتُهمِ التعصب والإرهاب التي يحاول الأعداء إلصاقها بالمسلمين والإسلام والأبحاث العلمية المعاصرة والقديمة تؤكد أنه لم يقم دين من الأديان بعرض الأديان الأخرى في كتبه الدينية، والاعتراف بها، وذكر محاسنها وتجاوزاتها إلا الدين الإسلامي، ونتيجةً لهذه الخطوة تم التعايش مع أصحابها، وظهر علم ” مقارنة الأديان” و ” الملل والنحل” والحوارات والمناظرات عند المسلمين.
الثمرة الثالثة: التعارف: قال الله تعالى: (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) [الحجرات:13]، ومن معاني الآية الكريمة تتضح أهداف التعارف ومبرراته، وتطرد محركات التنازع والتنابز والتباغض، وتجعل التقييم فقط للتقوى التي لا يعلمها إلا (عليم خبير) فلا تؤدي في هذه الحالة إلى العلو والطغيان والتكبر، فالبشر كانوا أمة واحدة ثم اختلفوا، فدعاهم الإسلام إلى التعارف ـ وهو مع الاختلاف ـ جزء من الفطرة الإنسانية والوسطية الدينية، فإن المسلمين اليوم بحاجة ماسة إلى ندوات ومؤتمرات تؤصل دعوة القرآن الكريم إلى التعارف وتعميم ثقافته، ومشاركة الفقهاء في إحياء ( فقه التعارف)، والسعي في إعاقة ونقض وكشف مسيرة دول كبرى، وأن يقوم أهل العلم والفكر والإعلام بإدخال مصطلح ” العدل” و "التعارف” في مؤتمرات الحوار؛ لكيلا تصطدم بالهيمنة والعنصرية والمصادرة والتهميش.
الثمرة الرابعة: النهي عن التشدد: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في أمر الدين، إذ ليس للتشدد إلا نتيجة سلبية، فيها هلكة للمتشدد، بل لابد من أن يأخذ هذا الدين بيسر؛ لأن في ذلك دوام العمل والمواصلة عليه، إذ لا يسع المتشدد الاستمرار على ماهو عليه، فيقع في الإجهاد والملل؛ فينقطع ويكف، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، إلخ) (صحيح البخاري للإمام البخاري، 1/118) ، فلا ينبغي للمرء أن يفرط في العمل ويبالغ فيه، بل عليه أن يلزم السداد، الذي هو الصواب بلا إفراط ولا تفريط، وأن يقارب في العمل، بأن يأخذ بالأكمل منه ما استطاع (فتح الباري لابن حجر العسقلاني، 1/119ـ120)، والنصوص في ذلك في الشريعة الإسلامية متضافرة متكاثرة.
الثمرة الخامسة: النهي عن الغلو: إن أقوم الصفات الفاضلة والفطرة السليمة تتمثل في الوسطية والاعتدال في الأمور، أما النزوع إلى طرفي الغلو والتقصير، أو الإفراط والتفريط، فإنه ينشأ عن انحراف الفطرة السليمة عن مسارها، ولا يقع ذلك إلا تحت تأثيرات الهوى المحذور منه، لذلك فإن الغلو والمغالاة غير مرغوب فيهما، لا في أمور الدين ولا في أمور الدنيا وشؤونها، والغلو في أمور العقيدة أشد خطرا وأعظم ضررا، إذ هو السبب في كل ما يصيب الأمة من انشقاقات وتحزب وتفرق، وبه حادت هذه الفرق والأحزاب عن الصراط المستقيم، فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض فيه الشيطان بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر، إما إفراط فيه وإما تفريط فيه(مجموع الفتاوى لابن تيمية، 3/381)، فالغلو من وسائل الشيطان في صدّ الناس عن دينهم الحق، وبسبب مخاطر الغلو هذه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: ( إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)( السلسلة الصحيحة للإمام الألباني، صـ 185)، ونصوص النهي عن الغلو في الدين كثيرة متوافرة.
الثمرة السادسة: الاختلاف: مما لاشك فيه أن الاختلاف بين الناس أصل في نظر الإسلام، وآية من آيات الله، وسنة كونية، وإثراء للجهاد والفكر، ولازم من لوازم عمارة الأرض، بل إن الإيمان بالاختلاف (اختلاف التنوع) بين الناس في الإسلام من أهم خطوات التواصل؛ لأنه يحفظ على الطرفين حقوقهم، ويؤكد لهما أن المسلم لا يلغي الآخر، وتبقى أجواء واسعة للإرادة والاختيار، ولا شك ” أن الاختلاف الثقافي والعرفي والديني والمذهبي باقية حتى قيام الساعة، والحكم فيه يومئذ لله، والتعامل مع بقائه لايكون بإلغائه ولا بتجاهله، بل بالتعرف إليه وتقبله واحترامه كسُنة دائمة من سنن الكون” (الوسطية أبعاد في التراث والمعاصرة للأستاذ محمد السماك، صـ62)، ومن يستقرئ النصوص القرآنية والنبوية في معالم اختلاف التنوع وضوابطه يدرك أن التنوع والتباين من مقومات الحياة، ويكتشف أن المختلفين أقرب إلى التكامل من المتماثلين، وأفضل للحياة.
الثمرة السابعة: الحوار: ليس من المبالغة ولا القرب منها بأن الإسلام دين الحوار، فهو ليس فضيلة فقط بل فريضة في الكثير من دوائره، وعلى كل القادرين عليه، والسيرة النبوية ـ على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم ـ مثقلة وحافلة بالشواهد الحوارية الرائعة مع المشركين واليهود والنصارى والصحابة، وما كانت وسائل الوفود التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استقبلها إلا ” الحوار”، واستعراض حوارات النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ بأيدينا إلى أهمية الهدف في الحوار، وحضور الأدب فيه، وإن من أهداف الحوارات النبوية: ” الإقناع بالإسلام، وتعليم الإسلام، والتثبيت على الإيمان، والتعويد على التسليم لأوامر الله، والذود عن دين الله، وتيسير الطاعة لله، وحسن الاستثمار لنعم الله، والتعويد على المداومة في فعل الخيرات، والاقتصاد فيها، وحفظ الحقوق …”( الحوار النبوي مع المسلمين وغير المسلمين للدكتور سعود صيني، صـ 322).
الثمرة الثامنة: العدل: والعدل من أكبر القيم التي احتضنها المشروع الحضاري الإسلامي، وتعم المسلم وغير المسلم، ومعاييرها واحدة، بعيدة عن الاستثناءات والعنصرية والخصوصية، لاتغيرها الأعراق والألوان واللغات والديانات والحضارات، والمسلم ملزم بالجهاد من أجلها، يفرضه على نفسه، وعلى من حوله، وينصر به المظلوم ويحارب به الظالم، ” إن الوسطية هو منهج الأخيار في كل دين، وكل ملة، وكل تيار فكري، أو أيديولوجي أوفلسفي” (الوسطية في التراث والمعاصرة للدكتور عبد الكريم المرغري، صـ 46)، فكيف إذا كانت وسطية الإسلام،؟! التي يربطها بالعدل والشهادة علاقات تكاملية، فصل بعضها عن بعض وتفريغها من معانيها الرائعة إساءة إليها جميعاً، فالوسطية تستدعي الشهادة، والشهادة يتوِّجها العدل، والثلاثة ثمارها الخيرية، والحضور الإنساني، وقوتها ” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
الثمرة التاسعة: السلام: مشتقّ منه الإسلام، ومن شعاراته الأصيلة، مقدم على الحرب؛ لأنها وسيلة، أما السلام فهو هدف، فالإسلام أول من أقر ” التعايش السلمي” ولو لا الظلم والبغي والعدوان وموالاة الأعداء ومن يظاهرونهم على الشر لما كانت في الإسلام آيات الجهاد والقتال، "الحوار النيّر الذي شرعه الله جل وعلا حوار هادف، مشرئب، يتوخى استنباط أسرار الكون،ويتطلع إلى لباب المعرفة، ويستزيد من جوهر الخير الخير، ولذلك كان مثمرا إيجابياً” (الحوار نافذة من نور، عمر بهاء الدين الأميري، م/ المسلم المعاصر، عدد ( الأول ربيع الثاني 1395هـ))، وبالحوار وليس القوة يتحدث العقلاء، ويرتقوا للوسطية، ويرى أبو حيان التوحيدي أن "النفس لها مرض وصحة، فصحتها اعتدالها في قواها الباقية، ومرضها خروجها عن الاعتدال” (الوسطية الطريق إلى الغد للدكتور عبد الله بن عبد العزيز اليحيى، صـ 116).
الخاتمة وفيها أهم النتائج والاقتراحات:
تبين لنا مما سبق في الصفحات الماضية أن للوسطية ثمراتٍ زكيةً وآثارا طيبة في حياة الفرد والمجتمع، ومنها:
أولا: إن الوسطية الإسلامية الحقة تؤدي إلى فقه التوازنات، وترتيب الأولويات، وإدراق الواقع، ولا تحصر نفسها في العقائد والعبادات أو في المعاملات والأخلاقيات فقط، بل هي تشمل كافة شئون الحياة وجوانبها، فالوسطية مطلوبة من جميع الجوارح، وعلى كل الدروب ومع جميع القضايا، وأفضل البدايات حسن التعامل مع الذات، فالمخرج من ظلم النفس والطريق إلى ضبط النفس يكمن في الاعتدال، وظلمها يعني مجاوزة الوسط إما إلى الغلو أو المجون، وضبطها يؤدي إلى استثمار إمكانيات الإنسان الجسدية والعقلية والقلبية، انطلاقا من التوازن في التعامل معها.
ثانيا: الوسطية الإسلامية تدعو إلى ميدان العمل والجد والاجتهاد والحركة والنشاط، وتنهى عن الغلو والمغالات والتشدد والتعسف والإفراط والتفريط نهيا شديدا واستنكرها أشد الاستنكار.
ثالثا: إن الوسطية الإسلامية هي الحقيقة الوحيدة في الكون، والبدائل ثبت فشلها، أو هي أصغر شأنا من أن تدخل في منافسة أو مقارنة مع وسطية الإسلام، وأنها تقبل المتغيرات، ولا تساوم على الثوابت، مبثوثة في العقائد والعبادات والأخلاقيات والمعاملات، تؤمن بشمولية الإسلام دون انغلاق، وتلتقي مع الناس جميعا حول العدل والحقوق والقيم السامية، وترسخ في المسلمين وحدة الجنس البشري، ووسائل الاتصال بينهم، وحسن العشرة.
التوصيات والاقتراحات: أولا: إبراز مساحات التوازن والتسامح في الإسلام، وفقه التعارف، وإيجابيات الحوار، والإيمان العملي في حق الناس ب” الاختلاف” والاختيار والتدين.
ثانيا: لا يحل مشاكل المسلمين فيما بينهم، ومع غيرهم، ولا يعالج أمراض الشطط والجفاء والتجاوز والنقصان، ولا يلطِّف الأجواء المشحونة هنا وهناك كوسطية الإسلام، إذا التزم بها المسلمون بل إن الوسطية الحقة إنصاف وقوة وعزة، وشدة على الطغاة والظلمة، ورحمة بالمؤمنين والضعفاء والفقراء، ومنهج رباني ومطلب إنساني لا مثيل له على الأرض، قال الله تعالى: (( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون)) [ البقرة:138].
وقوله سبحانه وتعالى: (( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) [الملك:14].
Leave a Reply