مضارّ الانحرافات الفكرية على الأمة الإسلامية

محمد هاشم بشير أحمد المدني العقيدة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأكرم المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فلا شك أن أعظم الفتن التي عمت وطمت، وجرّت على المسلمين الويلات والنكبات تلو النكبات هي فتنة الخوارج، الذين لا يألون جهدا في تفريق الأمة وتمزيقها، حتى تشتعل نارا، وتلتهب سعيرا، كل ذلك زعموا نصحا للأمة، وإنكارا للمنكر، أعاذنا الله من الفهم السقيم.
فكان من النصح للأمة ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيان انحراف هذه الفئة الضالة ومخاطرها وأضرارها على الأمة، والتحذير من سلوك دربها وطريقها، رغبة في دفع الشر والفساد، وطمعا في بلوغ المراد من الرجوع إلى دين الله كما نزل نقيا من شوائب الشرك ولوثات البدع.
ولعل في هذا البحث بعض ما يعين على أضرار هذه الفتنة الضالة المضلة ومخاطرها وأضرارها.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم وأن يبارك فيه، آمين يا رب العالمين.
الأضرار العامة التي لحقت بالأمة الإسلامية من أجل هذه الفتنة:
1ـ انشغال الأمة بهذه الفتنة العظيمة، وتفريق الكلمة، وشق الصفوف، إراقة الدماء الكثيرة، وقتل الصالحين والفوضى والاضطرابات وتعطيل الجهاد.
2ـ التضييق على الدين عموما، وعلى الدعاة بالسجن والقتل والتعذيب والتنكيل.
3ـ ظهور الفكر التكفيري بسبب التعذيب الشديد في السجون، وهو ما جرّ الويلات على الإسلام والمسلمين.
4ـ اضطراب الأمور جدا في الأمة الإسلامية.
5ـ تسببت هذه الفتنة في إضعاف الأمة بسبب ما حصل من الانشقاق، وهو ما أدى ذلك إلى انحطاط الأمة ودمارها وخرابها.
6ـ تفرق المسلمين وتمزق الصفوف، وانتهاك الحرمات وانتهاب الأموال وحصول الفساد العريض.
7ـ اشتغال الأمة بهذه الفتنة عن الفتوحات والجهاد.
8ـ اشتغال الأمة بوأد هذه الفتنة مما عطل الجهاد والدعوة الإسلامية.
9ـ ترويع الآمنين ومنع الصلاة والأذان.
10ـ ما حصل من تضييق على المتدينين في بعض البلاد ممن تأثر بعض أبنائها بهذه الفتنة.
11ـ تشويه صورة الإسلام الحقيقية، ونفرة كثير من عامة الناس من المتدينين، إذ أن كثيرا من الناس لا يميزون بين أهل الحق وغيرهم من أهل الانحراف.
12ـ تدمير الدعوة والصحوة الإسلامية وانتكاس الحال.
ولم تنته الثورات وحركات الخروج عند هذا الحد فحسب، فلقد كانت تظهر بين فينة وأخرى، إلا أن المقام لا يسع لذكرها، وحسبنا ما أشرنا إليه منها ففيه عبرة وموعظة لأولى الألباب.
الأضرار الدينية التي لحقت بالأمة الإسلامية:

الأضرار العقدية:
إن من أعظم الأضرار المترتبة على الخروج على الأئمة والحكام والإخلال بمنهج السلف الصالح في هذا الباب ما يلي:
1ـ ضعف العقيدة ووهنها: إن الخروج على الأئمة والحكام وانتشار هذا الفكر الضال بين الناس يعد خرقا في العقيدة الصحيحة، وبالتالي يدب في العقيدة الصحيحة الضعف والوهن، ويبتعد الناس عنها، وتكون غريبة عليهم.
2ـ الغلو في الدين: من أعظم الأضرار التي حصلت من الخوارج، ومن المعلوم أن الغلو أدى بهم إلى تكفير من تلبس بالمعاصي، وتكفير الحكام والمجتمعات الإسلامية وكل من يتبع رأيهم.
3ـ ظهور البدع وانتشارها: من أعظم البدع في الدين الخروج على الأئمة والحكام والخروج على المسلمين. فإن أول خلاف ظهر في عهد الإسلام هو بدعة الخوارج، وذلك بخروجهم على عثمان وعلي رضي الله عنهما، وإنكار إمامته وتكفير من معه من الصحابة.
4ـ إن الخروج يؤدي إلى تقنيط الناس من رحمة الله: وذلك نتيجة للأحكام التعسفية التي يطلقها دعاة الخوارج على العصاة والمذنبين، وأنهم كفار لا محالة، فيقنطونهم من رحمة الله.
5ـ إن الخروج يؤدي إلى التباس الحق بالباطل في باب الاعتقاد وعند كثير من الناس.
6ـ إن الخروج يؤدي إلى انتشار الانحراف العقدي وتأثر عوام الناس به.
7ـ إن هذا الاعتقاد الفاسد يجعل الحكام وغيرهم يحقدون على العقيدة السمحة، ويتهمونها بالغلو والإرهاب، وفي حقيقة الأمر أن الإسلام بريئ من كل تطرف وغلو، وهذا الصنيع أكبر ضررا على انتشار عقيدة السلف الصالح رحمهم الله جميعا.

الأضرار التعبدية:
إن الخروج على الأئمة والحكام هو شر وبيل على المسلمين في عباداتهم، ومن تلك الأضرار السيئة ما يلي:
1ـ هجر العبادة: هذا من أعظم الأضرار التي يخلفها الخروج على الأئمة والحكام، فيصبح الناس في خوف شديد، واضطراب أمني لا مثيل له، وبالتالي فإنهم يهجرون المساجد والصلوات وجميع العبادات.
2ـ الغلو في العبادات: يغلو كثير من الخوارج في بعض مسائل العبادة ويتنطعون فيها غاية التنطع، ولا شك أن الغلو في الدين مذموم، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) (صحيح البخاري: 1/69، كتاب العلم، باب الصلاة من الإيمان، رقم: 38).
3ـ الانحراف و الابتداع في العبادة: قال الله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (سورة الأنبياء: 7).
فالعلماء الربانيون هم الذين يبينون أحكام الدين، فلا تستقيم عبادة الناس إلا بالرجوع إليهم.
ولكن الخوارج قد طعنوا في علماء الأمة وزهدوا الناس فيهم، ولا شك أن هذا الطعن قد جعل الناس ينصرفون إلى الجهل وإلى عدم الأخذ أحكام الدين منهم، مما أحدث خللا في العبادة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (صحيح البخاري: 1/176، كتاب العلم، باب كيف يقببض العلم، رقم: 98).

الأضرار الاقتصادية والسياسية والأمنية:
إن الخروج على الأئمة والحكام لا يقتصر ضرره على الجوانب الدينية فحسب، بل يتعداه إلى الجوانب الاقتصادية والسياسية والأمنية أيضا.

الأضرار الاقتصادية:
إن استقرار الخلافة من أعظم أسباب حفظ أموال الرعية وسلامتها، فتتيسر المعايش للناس، وتزيد البركة، وتزدهر الحركة الاقتصادية.
وإذا خرج الخارجون على الأئمة والحكام، فإن ذلك الخروج يورث انقطاع السبل وتكدّر العيش وضيق المعيشة، (ضوابط معاملة الحاكم عند أهل السنة والجماعة: 542).
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (لأن الخروج على ولاة الأمور، يسبب فسادا كبيرا، وشرا عظيما، فيختل به الأمن، وتضيع الحقوق، ولا يتيسر ردع الظالم ولا نصرة المظلوم، وتختل السبل ولا تؤمن، فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم وشر كبير) (انظر: مراجعات في فقه الواقع للرفاعي: 25).

الأضرار السياسية:
والجانب السياسي لا يقل أهمية عن الجوانب الأخرى، فإذا ظهر الخارجون على الأئمة والحكام، فيؤدي ذلك إلى ضعف الدولة، وإنهاك قواها في الداخل والخارج، مع ما ستقابله من شوكة العدو وقوته.
فالخروج على الحاكم إضعاف للقوة العسكرية ودخول في الحروب الأهلية، مما يسوق إلى اختلال الأمن وتعرض الحياة لهزات عنيفة، لما يحصل من القتال والتصدي لهذه الحركات.
ومن الأضرار أيضا انهزام المسلمين أمام عدوهم، وفشلهم في صد كيد الكفار والمشركين عن الدولة الإسلامية، فإذا تفرقت كلمة المسلمين وازداد الشقاق بينهم تسلط عليهم أعداء الدين وذهبت هيبتهم في صدور أعدائهم.
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (ولما أحدثت الأمة الإسلامية ما أحدثت وفرقوا دينهم وتمردوا على أئمتهم وخرجوا عليهم، وكانوا شيعا، نزعت المهابة من قلوب أعدائهم وتنازعوا ففشلوا وذهبت ريحهم، وتداعت عليهم الأمم، وصاروا غثاءا كغثاء السيل) (شرح الأصول الستة: 161).

الأضرار الأمنية:
أما الجانب الأمني فهو من أعظم نعم الله على عباده بعد هدايتهم، فالأمن من أعظم المطالب الإنسانية، والدولة المستقرة المنضبطة هي التي تستطيع أن تحقق الأمن لشعوبها والرقي والتقدم لأبنائها، والدول المختل نظامها والمنفلت زمامها لا يمكن أن تحقق الأمن لشعوبها.
ومن المعلوم أن حركات الخارجين على الأئمة والحكام يرتفع معها الأمن ويقع بسببها الخوف والبلاء الشديد على الناس، ومن الأمثلة على ذلك ما كان بسبب حركة ابن الأشعث من وقوع الخوف والبلاء بأهل العراق، وبمن شارك مع ابن الأشعث خاصة، وبابن الأشعث نفسه، فقد روى الطبري أن ابن الأشعث نظر إلى رجل من أصحابه وهو هارب إلى بلاد رتبيل فتمثل بقول الشاعر:
يطرده الخوف فهو تائه
كذلك من يكره حر الجلاد
(تأريخ الأمم والملوك: 5/19).
فالأمن من المطالب المهمة للأمم، ومتى فقد أصبح الناس في قلق لا يعرف مداه إلا الله تعالى.
أسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يكون فيما سبق بيانه إرشادا للأمة، وتوجيها لشباب المسلمين، وساهمه في النهوض بهذه الأمة على نحو ما تنهض به في كل زمان ومكان، كما أسأله جل وعلا أن يكون فيه تحذيرا للأمة من منزلقات الأفكار الهدامة والدعاوي الباطلة التي ابتليت بها الأمة في هذا الزمان، والله وحده المسئول وخير المأمول أن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يعز دينه وأولياءه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of