لاشك أن اللغة العربية أكثر اللغات روعةً، وجمالًا، واشتقاقا. وهي أسماها وأشرفها على الإطلاق. وهي اللغة الوحيدة التي يوجد فيها من السعة، والتكامل، والخلابة ما لا يوجد في غيرها من اللغات الأخرى. وكيف لا تكون لها مزية وخصيصة على غيرها؛ وهي اللغة التي تكلم بها خالق اللغات في القرآن الكريم، وخاطب بها أفصحَ العرب والعجم نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- أولاً، وسائر الفصحاء، والبلغاء، والأدباء ثانياً، وتحداهم جميعا بالإتيان بسورة أو بآية مع كون بعضهم لبعض ظهيرا، فما استطاعوا، ولن يستطيعوا ذلك إلى يوم القيامة. فهي أشرف وأفضل لغات العالم بلا ريب.
إن شرف هذه اللغة يدعو جميع المعنيين بها إلى أن يعتزوا بسعتها، ويفتخروا بجمالها، ويحاولوا لترقيتها، وتنميتها، والالتزام بها في جميع شؤون الحياة، ويفهموها حق فهمها؛ لأن فهم الكتاب والسنة متوقف على فهمها، ولا يسع لأحد أن يفهم الكتاب والسنة إلا بالتمهر والبراعة في اللغة العربية وآدابها.
لكن الأمر الذي يندى له الجبين ويتعتع اللسان في التفوه به، أن معظمنا لا يحتفلون باللغة العربية، ولا يحاولون تعلمها حق التعلم، بل يفرون منها فرارهم من الأسد. فكم من متخرج من متخرجي الجامعات الهندية، بل من متخرجي الجامعات السعودية أيضا، الذين قضوا سنين طوالا في تصفح الكتب العربية، لا يستطيعون التحدث ولا الكتابة بها إلا بصعوبة بالغة. وحسب رأيي، هذا النقص يرجع أولًا: إلى النظام الدراسي، والمقررات الدراسية لدى الجامعات والمدارس، وثانياً: إلى عدم رغبة الطلبة فيها تحدثا وكتابة. وقد ثنّيتُ بعدم رغبة الطلبة فيها؛ لأنه لا تتسنى البيئة العربية في أكثر المدارس والجامعات الهندية. فما الذي يرغبهم فيها، ويشوقهم إلى تعلمها، ويحرضهم على بذل الجهود في سبيلها؟ ألا ترى أن اللغة العربية صارت منحصرة، ومقيدة في الكتب الدراسية. يقوم المدرس بترجمة النصوص والعبارات العربية إلى الأردية، والطالب يقتفي أثره فقط، ولا يحاول لأن يفعل أكثر مما فعله أستاذه؛ فيبقى متخبطا بين قراءة العبارة وترجمتها، وبالتالي -بعد ما قضى عشر سنوات على الأقل في قلب أوراق الكتب العربية وقراءتها- لم يستطع تسليح نفسه باللغة العربية السليمة تحدثا وكتابة.
ولعل الشيخ ذكي أحمد المدني استشعر بخطورة هذا الأمر، وبادر لحل هذه المشكلة؛ فاعتزم على توفير بيئة ملائمة في جامعته -جامعة الهدى الإسلامية بمدينة كولكاتا-، وقرر أن الدراسة في جميع المراحل الجامعية تكون بالعربية، حتى ولو واجه الطلاب بعض المشاكل في بداية الأمر.
يحمل هذا القرار فوائد جمة في طياته، أشاهدها بنفسي منذ سنوات، حيث وجدت الطلاب تنمو لغتهم العربية، وتتحسن تحدثاً وكتابةً يوما بعد يوم. وقد جربت خلال السنوات الماضية أن بعض الطلاب الجدد في المراحل العليا، كانوا لا يستطيعون التكلم بالعربية، ولو بجملة. ليس معنى هذا أنهم لا يعلمون شيئا من اللغة، بل هم يعلمون ويستطيعون قراءة العبارات العربية وتحليلها نحويا وصرفيا، لكنهم لم يتعودوا على التحدث بها، ولم يتمتعوا بجو عربي ملائم، ولم يسمعوا أحدا يتكلم بها في رحابهم، مع أن السماع يلعب دورا كبيرا في تعلم أية لغة؛ فكم من كلمة تقرأها في الكتب وتنساها بعد حين، لكن الكلمات والتعبيرات التي تسمعها من غيرك، تكون أشد رسوخا في ذهنك، وتعرف استخدامها المناسب حينما يتطلب الأمر.
إن جامعة الهدى الإسلامية تسعى -منذ تأسيسها- لتكوين البيئة العربية في رحابها، وثمرات هذا السعي ستكون حلوة بإذن الله تعالى. وفقها الله تعالى للمضي قدما في سبيلها المضيء، وتحقيق هدفها المنشود.
وبهذا الصدد، أريد لفت انتباه أصحاب الجامعات الهندية الأخرى ومسؤوليها إلى التفكير جديا في تهيئة بيئة ملائمة في جامعاتهم الحبيبة؛ فإن اللغة العربية تشتكي إليهم، وتناديهم لإحيائها، والنهوض بها، وبذل الجهد المتواصل لتطويرها، وتناغمها مع متطلبات العصر الراهن.
فقوموا يا أصحاب الجامعات من سباتكم العميق، وعلموا الطلاب اللغة العربية تحدثا وكتابة، ووفروا لهم الأسباب والوسائل، واجعلوهم يفتخرون بلغة الكتاب والسنة، وبشروهم بأن الحفاظ على لغة كلام ربهم شرف لهم، وعلموهم أن اللغة العربية لم يعجز يوما عن شيء برعت فيه اللغات الأخرى، ولن تعجز إلى يوم الدين إن شاء الله، وهي تناديهم؛ ليعتزوا بها، قائلةً عن نفسها:
وسعتُ كتاب الله لفظا وغايةً
وما ضقتُ عن آي به وعظاتٍ
فكيف أضيق اليوم عن وصفِ آلة
وتنسيق أسماء لمخترعاتٍ
أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟!
فأجيبوا دعوة اللغة العربية، وفقنا الله وإياكم.
لماذا لا نسائل أنفسنا كيف يتكلم الطلاب الصغار في المدارس العصرية الحديثة في الإنجليزيـة بكل طلاقة! ……… الجواب مختصر: دروسهم وكتبهم وتعليمهم وتربيتهم كلها في تلك اللغة.
نحن لا نقول للجامعات أن تفرض العربية على الطلاب في جميع الأوقات، لا! بل نقول: على الأقل لتكن الدروس في العربية، كما أن الجامعات العصرية تفرض على أساتذتها إلقاء الدروس في الإنجليزيـة لا غير!
هذا هو السر الأعظم في سرعة تعلمهم تلك اللغة.