الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فمما لا شكّ فيه أنّ العلامة المفسّر والأديب البارع أبا الكلام آزاد -رحمه الله- من أولئك الأفذاذ الذين قلّما يجود بهم الزمان, وتكاد تعجز الدراساتُ عن أن تصنع أمثالهم مهما دقّت؛ والجامعات عن تخريج مَن يُضاهيهم مهما ترقّت.
وسألمح في السطور الآتية إلماحةً موجزةً إلى شيء من سرائر تكوينه العلمي والفكري, وملامح شخصيته العبقرية؛ عسى أن يكون في ذلك ما يضيء الدرب أمام الجيل الناشئ, فيساهم في تعزيز الطُّموح, وإحكام البناء، وتنوير الفكر، وبثّ روح الاعتزاز بالمبادئ والقيم، والتفاني في سبيل العلم والدعوة, وبالله التوفيق.
اسمه ونسبه وأسرتُه:
هو: أبو الكلام, محي الدين أحمد بن خير الدين بن محمد هادي, الملقَّب بـ: آزاد؛ (أي: الحُرّ). [مولانا آزاد: سوانح أفكار -بلغة أردو- (ص: 10)].
وكان اسمه التاريخي الذي سمّاه به والده عند ولادته -تفاؤلًا بحسن حظّه-: $فيروز بخت#؛ ومعناه: حَسَنُ الطالع. [انظر: التذكرة لمولانا آزاد (ص: 310)].
وقد عُرف في صغره باسم: محي الدين أحمد, وحينما بدأ الكتابة في الصحف والجرائد؛ اقتصر على الجزء الثاني من الاسم: $أحمد#, ثم عُرف -بعد ما علا نجمُه, وذاع صيتُه- بـ: $أبو الكلام آزاد#, وغلب عليه هذا الاسم المركّب من كنيته ولقبه. [انظر: مولانا آزاد: سوانح أفكار (ص: 22)].
وينحدر أبو الكلام آزاد من سُلالةٍ علميةٍ عريقةٍ ضاربةٍ بجذورها في الفضل والصلاح, والزهد والتصوّف -على ما كان في ذلك من شوائب بعض المخالفات الشرعية-؛ فكانت أمُّه ابنةَ أخت الشيخ المحدّث محمد بن ظاهر الوتري؛ مفتي المدينة المنورة في عصره, وأستاذ الحديث لأكثر علماء الحجاز, وخاتمة المحدثين بمكة المكرمة بعد الشيخ عبد الله سراج. وكان جدّه محمد هادي من إحدى الأُسَر العلمية المعروفة في مدينة دهلي. [انظر: التذكرة (ص: 25)].
وكان والده من العلماء المعروفين, والأدباء المرموقين, وكبار المتصوفة في زمانه؛ ألّف كتبًا في فنون شتى, بالعربية, والفارسية, والأردية.
وقد برّز في أسرة مولانا أبي الكلام آزاد غيرُ واحدٍ من العلماء والصلحاء وأصحاب الطريقة؛ منهم: الشيخ جمال الدين المعروف بـ: بـهلول الدهلوي, الذي كان في طليعة العلماء, ومشاهير أصحاب الطريقة, في عهد الإمبراطور المغولي: $أكبر#, وكان خليفةً للشيخ أحمد السرهندي مجدّد الألف الثاني في دلهي. [انظر: مولانا آزاد: سوانح وأفكار (ص: 10)].
ولادتُه ونشأته العلمية:
هاجر والدُ أبي الكلام آزاد: مولانا خيرُ الدين من الهند إلى مكّة المكرمة على إثر اندلاع ثورة (1857م) الشهيرة في تاريخ مقاومة الهند للاستعمار الإنجليزي الغاشم, فُولد مولانا آزاد هناك في ذي الحجة سنة (1305هـ) الموافق (1888م) في مَحلّة $قدوة# المتصلة بباب السلام.
يقول مولانا آزاد: $موطنُ آبائي دهلي المرحومة… ومولدي ومنشأ طفولتي: وادٍ غيرُ ذي زرعٍ عند بيت الله المحرّم؛ أي: مكّة المعظمة, زادها الله شرفًا وكرامةً#. [التذكرة (ص: 310- 312)].
فنشأ مولانا آزاد وترعرع في مكّة المكرّمة, وعاش في ربوعها أيامَه الأولى من طفولته, وبدأ يختلف إلى الكُتّاب في السنة الرابعة من عمره, فتعلّم حروف الهجاء أوّلًا, ثم أقبل على تعلُّم القرآن الكريم في الحرم المكي, وبذلك سلك الجادّةَ في بدء مسيرته العلمية, ووَضَعَ اللَّبِنةَ الأولى في تأسيس كيانه المعرفي والفكري, ورَسْمِ معالمِ شخصيته.
وقد فرغ من تعلّم قراءة القرآن في الحرم المكي قبل أن تغادر أسرتُه إلى الهند, وكان قد حفظ في هذه المُدّة بعضَ سور القرآن أيضًا. [انظر: مولانا آزاد: سوانح وأفكار (ص: 23)].
وبما أنّ اللغة العربية كانت لغةَ الحديث في بيته؛ لكون أمه لم تكن تُجيد التحدُّثَ باللغة الأردية؛ فقد ساعده ذلك على تعلّم اللغة العربية, وغرس فيه الشعورَ بأنها لغته الأم. [انظر: آزاد كى كهانى آزاد كى زبانى: (ص: 222-224), و مقدمة المحقق مالك رام لكتاب: غبار خاطر (ص: 18)].
ولما بلغ آزاد من عمره قرابة السبع سنوات- وقيل: العشر سنوات- ؛ غادرت أسرتُه مكةَ المكرمة إلى مدينة كولكاتا بالهند, وألقت عصا الترحال فيها. فبدأ والده بتعليمه بنفسه, فتعلّم أبو الكلام آزاد القراءةَ والكتابةَ باللغة الأردية على يدي والده, كما درس عليه العربية والفارسية أيضًا حتى تمكّن فيهما. [انظر: مقدمة محقق كتاب: غبار خاطر (ص: 18), ومولانا آزاد: سوانح وأفكار (ص: 22)].
ثم رغب أبو الكلام آزاد إلى والده في مواصلة دراسته وتلقي العلم في المدرسة, إلا أنّ أباه لم يُجبه إلى ذلك, وإنما هيّأ له بعضَ المُدرّسين الذين كانوا يتولَّون تعليمَه وتربيتَه تحت رعاية والده في منزله. [انظر: مولانا آزاد: سوانح وأفكار (ص: 23)].
من سرائر نبوغه العلمي وإرهاصات عبقريته:
نشأته في بيئة علمية: فقد كان أبوه معدودًا في أهل العلم، وكان معنيًّا بتعليم ابنه وتربيته أيما عناية، مع ما حظي به من رعاية أمه التي كانت تنتمي إلى أسرة علمية فاضلة, إضافةً إلى ميلاده في مكة المكرمة، وبدئه مرحلةَ التحصيل الأولى بمسجد الكعبة، وختمِه فيه للقرآن؛ فكلُّ ذلك كان له أثرٌ كبيرٌ في تكوينه العلمي والمعرفي, وصقل مواهبه، واستعداده لبلوغ مراتب الكمال والتفوُّق والنبوغ.
الولع بمطالعة الكتب: كان مولانا أبو الكلام آزاد قد حُبّب إليه مطالعةُ الكتب مُنذ وقتٍ مُبَكِّرٍ من حياته؛ فما إن بلغ العاشرةَ من عمره حتى أولع بقراءة الكتب, واقتنائها, فكان ينفق مصروفاته اليومية -التي كان والده يعطيه إياها- في شراء الكتب, وبلغ به إدمان القراءة إلى أنْ كان يُوقد السراج في الليل, ويقرأ على ضوئه. [انظر: مولانا آزاد: سوانح وأفكار (ص: 23)].
فكان ذلك من أهم العوامل في تنمية مداركه, وتوسيع آفاقه, وصقل مواهبه, وقوة إبداعه, ونبوغه المبكّر, وعليه؛ فلا غرو أن يقول آزاد: $قد شَبَّتْ مطالعتي قبل بلوغي سنَّ الشباب بكثير#. [مولانا آزاد: سوانح والأفكار (ص: 71)].
حِدّةُ الذكاء وقُوّة الذاكرة: كان الله قد وهبه ذكاءً مُفرطًا, وذاكرةً خارقةً, وحافظةً واعيةً أكسبته استعدادًا علميًّا قويًّا جعله ينتهي من الدراسة النظامية في السادسة عشرة من عمره قبل أترابه وأقرانه؛ ويحفظ آلافًا مؤلّفةً من الأشعار العربية والفارسية, كما يدل على ذلك كثرةُ استشهاداته بالأبيات الشعرية في كتاباته. [مولانا آزاد: سوانح والأفكار (ص: 100, 102)].
وقد حصلت له من جرّاء ذلك ثروةٌ لغويةٌ ضخمةٌ, مكّنته من امتلاك ناصية البيان، والبراعة في الخطابة، مع روعة التعبير, وجزالة الأسلوب, وقد طاعتْ له عصيّاتُ الكَلِم, وذلّتْ له العوالي من قطوف المعاني, كما يتجلّى ذلك في استخدامه لصيغٍ عربيةٍ جديدةٍ وتراكيبها في كتاباته؛ لم يكن للأردية بها عهد من قبله.
وكان من نتيجة ذلك أن أثرى مولانا آزاد الأدبَ الأرديَّ بثروةٍ هائلةٍ من المفردات والتراكيب, وأضاف إليه نَسْجًا فريدًا من أسلوب البيان, ونَمَطًا جديدًا من طريقة الإنشاء والخطابة؛ حتى بَهَرَ مصاقعَ الخطباء, وبواقعَ البلغاء من عصابة الأدباء من أقرانه, وعَنَتْ له حملةُ الأقلام, وأئمةُ الكلام في عصره, حتى قال الأديب البارع والكاتب القدير شُورش الكاشميري: $إنّ عتبةَ أسلوبِ مولانا آزاد موضعٌ لسجود قلمي#. [مولانا آزاد: سوانح وأفكار (ص: 7)].
اشتغاله المُبكِّر بالصحافة: لقد دأب مولانا آزاد -منذ وقتٍ مُبكِّرٍ من حياته- على كتابات المقالات ونشرها في الصحف والجرائد, مما كان له أثر كبير في تقوية ملكته الكتابية والصحافية.
فقد ذكر شورش الكاشميري في كتابه $مولانا آزاد: سوانح وأفكار# (ص: 385): أنّ أولّ مقال نُشر لمولانا أبي الكلام آزاد في جريدة $المصباح# سنةَ (1900م) وكان عمره حينئذ اثني عشر عاما!
وقام أيضًا بإصدار عدة صحف وجرائد, وتولّى إدارةَ تحريرها, ولم يتجاوز عمره ست عشرة سنة, فقد أصدر جريدة $لسان الصدق# الشهرية في هذه السِّنّ من عمره, ثم عمل ما بين سنة (1905م) و(1906م) مساعدًا لرئيس تحرير مجلة $الندوة# الصادرة من لكناؤ.
ثم أصدر جريدته الأسبوعية الشهيرة $الهلال# سنة (1912م) وهو في الرابعة والعشرين من عمره؛ فبلغ بذلك أوجَ الصحافة, وطلع نجمًا ساطعًا في سمائها.
وقد دبّج أبو الكلام آزاد في جريدة $الهلال# أروعَ المقالات، وأبدعَ التحليلات، وخاض على صفحاتها أصدقَ الهجمات على الاستعمار وسياسته, وعرّى من خلالها دسائسَه ومكائدَه, وحرّض فيها على تقليم أظافره, وهَتْم أنيابه؛ مما جعل السلطاتِ البريطانيةَ تُصدر قرارًا بمصادرتها وإغلاقها, وكان ذلك بعد سنتين من صدورها. [انظر: مولانا آزاد: سوانح وأفكار (ص: 69-70)].
وقد تجسّدت في هذه الجريدة شخصيةُ مولانا أبي الكلام آزاد في أجلى صورها؛ فقد كانت ترجمانًا صادقًا لفكره ودعوته؛ ومضمارًا واسعًا لصولاته وجولاته ضدّ الاستعمار وسياسته؛ وبُرهانًا ساطعًا على إيمانه الصادق, وموقفه الثابت, ونظراته النافذة, وملاحظاته الدقيقة؛ ونموذجًا رائعًا لذوقه الجميل, وخياله الخصيب, وأسلوبه الأخّاذ, وملكته المُدهشة في التعبير. وقد جمعت بين عُمق الفكر, وحكمة العقل, وجزالة اللفظ, وبلاغة العبارة؛ فراعَتْ بالحكمة العقلية في معناها, وراقَتْ بالعبارة البلاغية في مبناها.
اشتغاله بالتأليف في موضوعات شتى: ثم إلى جانب اشتغاله بالصحافة, ومع كثرة الغُصَص من تبعات قضايا السياسة، إلا أن ذلك لم يُشكِّل له عائقًا عن الخوض في غمار التأليف؛ فألّف عدّة كتبٍ قيّمة باللغة الأردية؛ مثل كتابه الشهير: $تذكره#، و$شرح حديث الغُربة#, و$السيرة الطيبة من القرآن#, و$مسألة الخلافة وجزيرة العرب#، و$جامع الشواهد في حكم دخول غير المسلمين المساجد#, و$غبار الخاطر#، و$ترجمان القرآن#؛ الذي قام فيه بترجمة معاني القرآن الكريم وتفسيرها بطريقة مبتكرة؛ أبانت عن تضلُّعه في اللغة العربية، وملكته القويّة في فهم خطاب القرآن ومعانيه، والغوص على أسراره وحقائقه, زيادة على الأسلوب الأدبي الأخّاذ، واللغة العلمية الرصينة اللّذين قلما يوجد لهما نظير في ترجمات القرآن الأخرى. [انظر: مولانا آزاد سوانح وأفكار (ص: 483- 484, وأبو الكلام آزاد بحيثيت صحافي ومفسر (ص: 28-29؛ 79- 81؛ 90)].
خاصة أنّ ما نثره في تفسير سور الفاتحة من النفائس والدُّرر -وبالأخص فيما يتعلّق بتفسير حقيقة الربوبية ومظاهرها-؛ فإنها تدلّ على غزارة علمه، وقوة ملاحظته, ونفوذ بصيرته في سنن الله في الآفاق والأنفس, والله أعلم.
رغبتُه عن مذهب أبيه وتأثُّره بشيخ الإسلام ابن تيمية: كان مولانا أبو الكلام آزاد يتمتّع بالألمعية النادرة, والبصيرة النيّرة, والطبيعة الاستقلالية, وعاطفة الإصلاح والتجديد, وحُبّ البحث والتحقيق, وسداد الفهم, وصدق الإلهام؛ مما جعله يزن الأمور بميزانها الصحيح, ويميزّ بين الغثّ والسمين من العقائد والأفكار والتصوّرات, ويتحرّر من القيود والأغلال التي فرضتها عليه البيئة المحيطة به.
فكان ذلك سببًا في رغبته عن مذهب أبيه عقيدةً وفقهًا وسلوكًا؛ فخلع ربقةَ التقليد في العقائد والأفكار الموروثة من عنقه, ونبذ العوائد السائدة في أسرته وراء ظهره, وأقبل بكُلِّيته على مطالعة القرآن والسيرة النبوية, والاستضاءة بأنوارهما في حياته العلمية والعملية, ونادى بالتمسّك بالكتاب والسنة عبر صحفه وجرائده, ومحاضراته, ومؤلّفاته, نداءً قويَّ الصَّدح عاليَ الرَّنين, ودافع عن عقيدة السلف دفاعًا مجيدًا, وألّف عدة كتب في الردّ على المعتزلة, وتفنيد شبهاتهم. [انظر: أبو الكلام آزاد: سوانح وأفكار (ص: 62, 96)].
ومما جعله أكثر تحرُّرًا واستقلالًا في الفكر والنظر تأثرُّه بشيخ الإسلام ابن تيمية وعلومه ومعارفه؛ بحيث انعكس ذلك على فكره ودعوته, وعقيدته ومنهجه انعكاسًا تامًّا؛ حتى شُبّه بشيخ الإسلام ابن تيمية, ولُقّب بــ $ابن تيمية الهند#. [انظر: أبو الكلام آزاد: سوانح وأفكار (ص: 32),
يقول الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ غلام رسول مهر: $إنّ جريدة أبي الكلام آزاد الأسبوعية المسماة: (الهلال), لم تكن إلا انعكاسًا لمعارف ابن تيمية#. [انظر: دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة, لمؤلفه صلاح الدين مقبول أحمد؛ مقدمة الناشر (ص: 44)].
ولا أدلّ على ذلك مما نوّه به أبو الكلام آزاد شيخَ الإسلام ابن تيمية في كتابه (تذكره)؛ حيث تحدّث -وبغاية من الجامعية, مع وفور الوَلَه والعاطفة الجيّاشة-, عن تبحرّه في العلوم والفنون، وخصائص دعوته وتجديده العظيمة، وعن ثَباته ووَثَباته في نصرة السنة المحضة، وقد أفاض في ذكر محاسنه ومحامده أكثر من غيره ممن تناولهم في كتابه المذكور.
ويعتبر مولانا آزاد ثاني اثنين يرجع إليهما الفضل في تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية إلى قُرّاء الأردية, وأولهما العلامة الشبلي النعماني رحمه الله. [انظر: آثار حنيف -بلغة أردو- (4/77) للعلامة عطاء حنيف الفُوجياني].
يقول الشيخ عبد الحميد الرحماني رحمه الله: $لقد ملأ أبو الكلام آزاد أرض الهند بذكريات شيخ الإسلام ابن تيمية، ووضع شخصيته أمام العلماء والمفكرين والدعاة والمثقّفين بأدبٍ رائعٍ رفيعٍ، وأسلوبٍ شائقٍ جذّابٍ، وطريقةٍ معجزةٍ مُبتكرةٍ#. [انظر: دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية؛ مقدمة الناشر (ص: 43) -بتصرف يسير].
خوضُه في غمار الكفاح ضدّ الاستعمار: فتح مولانا أبو الكلام آزاد عيينه على أرض أجداده, ومطارقُ الاستعمار تنهال عليها في غير هوادة, ورأى وطنَه وهو يئنّ من استعباد هذا الاستعمار, واستبداده؛ وقومَه وقد خدّر الاستعمارُ مواقعَ الإحساس ومكامنَ الشعور من نفوسهم, واستولى بالقُوّة والكيد والصَّوْلة والأيْد على ديارهم وأموالهم, حتى أصبحوا غرباء في وطنهم.
فساء أبا الكلام آزاد هذا الجوُّ الخانق المُكْفَهِرّ, فشمّر عن ساق الجدّ لاستعادة مجد الأجداد, وهبّ لإثارة الهمم الراكدة, وإيقاظ المشاعر الراقدة من نفوس قومه, فانضمّ إلى ركب المناضلين والمجاهدين في سبيل تحرير وطنه, وبدأ صولاته وجولاته بقلمه ولسانه, وطفق يُرسل عبر كتاباته ومحاضراته شُواظًا من نار على الاستعمار؛ يُزلزل كيانه, ويُقضّ مضجعَه, ويُثير الشعبَ ضدّه؛ مما جعل الاستعمار يتوجسّ من تحركُّاته ونشاطاته خِيفةًَ, ويقعد له بالمرصاد, فمِن ثَمّ اعتقلته السلطات البريطانية عدّة مرّات, وزجّت به في غيابات السجون؛ لشلّ حركته, وخضد شوكته, وإخماد نشاطه تجاه استقلال الهند؛ حتى عَجَمَتْه الأيام، وعَرَكَتْه الحوادث, وأحكمتْه التجارب؛ فظهر من خبايا جوهره الفكري والعقلي والسياسي ما بهر زُعماءَ عصره؛ من ألْمعيةٍ فذّةٍ في فهم الدين والواقع, ونظرةٍ ثاقبةٍ في السياسة الحاضرة, وفراسةٍ نافدةٍ إلى أعماق المستقبل, وقُدرةٍ عجيبةٍ على استشفاف المخبّآت, مع قوة الإرادة التي لا تعرف الهوادة، وصدق العزيمة التي لا تعرف الارتخاء والتراجع, وعُلُوّ الهمة التي لا ترضى بالدُّون والهوان, والثبات الذي لا تُزلزله العواصف الهوجاء, والحَسْم الذي يقضي على التردّد، والرأي الذي يردُّ ليلَ الحوادث صُبحًا.
وبالجملة؛ فقد آتت كُلُّ تلك العوامل أُكلَها, حتى جعلت من مولانا أبي الكلام آزاد شخصيّةً عبقريةً, متعدّدةَ المواهب, ومتسعةَ الجوانب؛ فكان عالِمًا مُتبحِّرًا, ومُفسِّرًا مُقتدرًا, وخطيبًا مُفَوَّهًا, وكاتبًا مُجيدًا, وأديبًا بارعًا, وصَحافيًّا مُتميّزًا, وسياسيًا مُحنّكًا. [انظر: مولانا آزاد بحيثيت صحافى ومفسر (ص: 91)].
وفي نهاية المطاف أودّ أن أسجّل حقيقةً لا مراء فيها -إن شاء الله-؛ وهي أنّ الله تعالى قد جمع فيه ما تفرّق في غيره من علماء ذلك العصر من خصال العلم والفضل, وأربى عليهم بالنثر الرائق, والكلام الفائق, والبيان الناصع، واللسان المطاوع، والقلم السيّال, والفكر الجوّال, والذكاء الوقّاد, والذاكرة الخارقة, والقريحة الخِصبة, والفهم الغوّاص على دقائق القرآن وحقائق الدين, والتضلُّع التام في اللغات العربية والأردية والفارسية.
Leave a Reply