نبذة عن كتب المسانيد مع دراسة مسند البزار

أمير الإسلام بن بحر الحق الجاندفوري الحديث وعلومه

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بعد؛ فإنَّ مِنْ أعظم ما يقوم به طالب العلم خدمة العلوم الشرعية على الإطلاق، وإنَّ من أشرفها وأعلاها العناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلَّم.
ومِنْ نعمة الله تعالى على هذه الأمة أنْ هَيَّأ لها علماء ناصحين، أوقفوا حياتهم على خدمة هذا الدين، ونذروا أنفسهم من أجل الدفاع عنه.
ومن أبرز هؤلاء العلماء: أئمّة الحديث الجهابذة النقّاد الحفّاظ، الذين بذلوا كل جهد، وتحملوا أنواع المشاقّ من أجل الحفاظ على سنَّة المصطفى -عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم- والذبِّ عنها، وتمييز صحيحِها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، فنَصَرَ اللهُ بهم ألويةَ السُّنَّة والهدى، وأخمد زوابع البدع والضلالة والفتنة.
وإنَّ من تلكم الجهود العظيمة التي قاموا بها: تصنيف المصنفات وتأليف المؤلَّفات في هذا الميدان؛ ألا وهو خدمة السنة النبوية.
وقد تفنَّنُوا في التصنيف والجمع والنظم والترتيب وغير ذلك؛ فمنهم: من صنَّف في الصحيح المجرّد، ومنهم: من ألَّف على المعاجم، ومنهم: من ألَّف على الأبواب الفقهية، ومنهم: من ألَّف على المسانيد، وهكذا.
وقد وفَّقَنـي ربِّـي لدراسة عدد من هذه المؤلفات الحديثية، والوقوف على مناهج مؤلفيها، وذلك في السنة المنهجية في مرحلة "الدكتوراه” بقسم فقه السنة بكلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية، وكان هذا البحث المتواضع المعنون بـ(نبذة عن كتب المسانيد، مع دراسة مسند البزار) من ضمن تلكم البحوث العديدة التي تمّ إعدادها إكمالاً لمتطلبات السنة المنهجية للمرحلة المذكورة.
وأتشرف بتقديمه الآن إلى القرّاء الكرام لـ” مجلة الأقلام الحرة” بعد إجراء تعديلات -على أصل البحث- اقتضتها المجلة الموقرة، سائلا الله عز وجل أن ينفع به كل من قرأه، وأن يجعله خالصًا لوجهه؛ إنّه قريب مجيب.

خطة البحث:
تكوّن البحث من مقدمةٍ، وتمهيدٍ، وموضوع البحث، وخاتمةٍ، وذلك على النحو التالي:
المقدِّمة؛ وفيها: الكلمات الافتتاحية وذكر خطَّة البحث.
التمهيد؛ وفيه التعريف بالمسانيد، وأهمّيتها، ونبذةٌ عن جهود العلماء في التأليف فيها.
موضوع البحث: دراسة كتاب "المسند” لأبي بكر البزار، مع التعريف بمؤلفه؛ وفيه مبحثان:المبحث الأول: التعريف بالمؤلف وهو في عدة مطالب.
والمبحث الثاني: التعريف بالكتاب، وفيه أيضاً مطالب عديدة، ثم الخاتمة؛ وفيها: ذكر أهم النتائج والتوصيات.

– التمهيد، وفيه: التعريف بالمسانيد، وأهميتها، ونبذةٌ مختصرةٌ عن جهود العلماء في التأليف فيها.
– تعريف المسانيد:
– التعريف اللغوي: المسانيد أو المساند جمع: مسند، وهو: اسم مفعول من الرباعي: (أسْنَدَ). قال ابن فارس:«السين والنون والدال أصلٌ واحد، يدلُّ على انضمام الشيء إلى الشيء، وَالْمُسْنَدُ: الدَّهْرُ; لِأَنَّ بَعْضَهُ مُتَضَامٌّ، وَفُلَانٌ سَنَدٌ، أَيْ مُعْتَمَدٌ. وَالسَّنَدُ: مَا أَقْبَلَ عليك مِنَ الْجَبَلِ، وَذَلِكَ إِذَا عَلَا عَنِ السَّفْحِ». [ينظر:مقاييس اللغة (3/105) مادة: سند].
وقال ابن منظور: «السند: ما ارتفع من الأرض في قُبُل الجبل أو الوادي، وكل شيء أسندت إليه شيئاً، فهو مُسْنَد وجمعه المساند».[ينظر: لسان العرب: 3/220)]. وزاد صاحب القاموس: أنه يجمع أَيضًا بلفظ: «مسانيد». [ينظر: القاموس المحيط (ص/290].
وقال الزركشي: «المسانيد، يجوز لك إثبات الياء في الجمع، ويجوز حذفها، وكذلك مراسيل ومراسل، والأوْلى الحذف، قال تعالى:{مَا إِنَّ مَفَاتِحَه}، والإثبات عند البصريين موقوف على السماع، وعند الكوفيين جائز».[ينظر: النكت على مقدمة ابن الصلاح: (1/344)].
ومما سبق يتبين أنّ المُسْند هو: ما ضُمَّ إلى شيء أو رُفع إليه ليقوى به، أو ليعرف به ويُنسب إليه.
– التعريف الاصطلاحي: يطلق في الاصطلاح، ويراد به معنيان:
الأول: الحديث المسند:
قال الخطيب البغدادي: «وصفهم للحديث بأنَّه مسند، يريدون أنَّ إسناده متصل بين راويه وبين من أسند عنه، إلا أنَّ أكثر استعمالهم هذه العبارة؛ هو فيما أسند عن النبي خاصة». [انظر: الكفاية (1/ 114)].
الثاني: يطلق على الكتاب الذي يروي مؤلِّفُه أحاديث كل صحابي على حدة.
قال الخطيب عن أنواع المؤلفين في الأحاديث:«من العلماء من يختار تصنيف السنن وتخريجها على الأحكام وطريقة الفقه، ومنهم من يختار تخريجها على المسند، وضمِّ أحاديث كل واحد من الصحابة بعضها إلى بعض».[انظر: الجامع لأخلاق الراوي (2/284].
والمعنى الثاني؛ هو المقصود في هذا البحث.
وعلى هذا نقول في تعريف (كتب المسانيد): هي المصنفات التي جمع مؤلفوها أحاديث كل صحابي على حدة. [ينظر للتفصيل: توجيه النظر إلى أصول الأثر (1/372) والمعجم المفهرس لابن حجر (ص/129) والرسالة المستطرفة (ص/60)].
وهناك كتب مطابقة للتعريف، ومرتَّبَةٌ على أسماء الصحابة على طريقة المسانيد، ولم يُسمِّها أصحابها مسانيد، من ذلك مثلاً: "المعجم الكبير” لأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني (ت360هـ)، و”الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين” لضياء الدين أبي عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد المقدسي (ت 643هـ).
وقد سُميت بعض المصنفات على الأبواب الفقهية بالمسانيد، وهي ليست كذلك بالمعنى الاصطلاحي السابق، وإنما لإرادة مؤلفيها منها مطلق الرواية بالإسناد، وعليه تحمل بقية المصنفات التي يرد في أسمائها لفظة "مسند”، مثل: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول اللَّه وسُننه وأيامه”، للإِمام البخاري (ت 256هـ)، و "المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول اللَّه ” للإِمام مسلم (ت 261هـ) و”مسند الدارمي” لأبي محمد عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي (ت 255هـ) (ينظر: المسانيد نشأتها، وأنواعها:26/98).
-العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:
يتصل المعنى الاصطلاحي لكلمة :(مسند) بمعناها اللغوي من عدة أطراف، منها: الضم والجمع؛ فصاحب الكتاب الْمُسْنَد يضم الأحاديث إلى راويها، أو يضم أحاديثه كلها على حِدة. ومنها: الرفع والنِّسبة، ومنها الاعتماد، وذلك من جهة أن المحدث يرفع الحديث إلى قائله وينسبه إليه فيسوق إسناده به، بحيث يعتمد على صنيعه. [ينظر: المسانيد نشأتها، وأنواعها:26/98)].
قال الزركشي: «هو مأخوذ من السند، وهو ما ارتفع وعلا عن سفح الجبل؛ لأن المسْنِد يرفعه إلى قائله، ويجوز أن يكون مأخوذًا من قولهم: فلانٌ سَنَد، أي: معتمد، فسمِّي الإخبار عن طريق المتن: مسندًا؛ لاعتماد النقاد في الصحة والضعف عليه». [انظر: النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي (1/ 405].
أهمية كتب المسانيد:
إنّ كتب المسانيد تحتل مكانة رفيعة بين مصادر الحديث النبوي الشريف؛ إذ هي تأتي -من جهة الصحة وعدمه- بعد الصحاح والسنن وما التحق بها من الكتب المصنفة على الأبواب الفقهية، وسبب تأخر المسانيد عن الصحاح أمر ظاهر؛ فأصحاب الصحاح يشترطون الصحة في كتبهم، وأما سبب تأخرها عن الكتب المصنفة على الأبواب الفقهية كالسنن الأربعة؛ فلأنّ أصحابها -في أصل وضعهم لكتبهم- يوردون في كل باب ما يصلح للاحتجاج به؛ بخلاف من صنَّف على المسانيد فإن ظاهر قصده: هو جمع حديث كل صحابي على حدة سواء أكان يصلح للاحتجاج به أم لا. [ينظر: الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (2/185) والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (1/447].
ولكتب المسانيد مزايا كثيرة، وفوائد عديدة، منها:
– أنها من المصادر الحديثية الأصيلة، حيث يروي مؤلفوها الأحاديث بأسانيدهم، ولا يخفى ما لمعرفة الإسناد من أثر كبير في الوصول إلى الحكم على الحديث الذي يراد الاحتجاج به في المسائل والاختيارات ونحوها.
– أنها من مظان جَمْع طُرق حديث كل صحابي، ولا سيما المسانيد التي تُعنى بالعلل، ولهذا أثره الكبير على علوم الإسناد من تسمية الرواة، ومعرفة ألفاظ صيغ أدائهم ولا سيما المدلِّسين، والرواة عن المختلطين، واتصال الأسانيد، ونحو ذلك كما له أثره أيضًا في علوم المتن من معرفة الزيادات، وضبط الألفاظ، وفهم معانيها إضافة إلى ما يتصل بمدى تقوية الحديث بمعرفة متابعاته، وشواهده، أو تضعيفه بمعرفة اختلاف الرواة فيه المفضي إلى إظهار علله.
– معرفة الصحابة، إذا صحّ الإسناد إليهم، لأنّ مؤلفي المسانيد رتَّبوا الأحاديث فيها -في الغالب- على الصحابة.
– معرفة الـمُكثرين من الرواية والـمُقلّين منها من أصحاب رسول اللَّه.
– تسهيل الوصول إلى الحديث بواسطة معرفة راويه من الصحابة، وهو نوع من الفهرسة لا يجوز الغض من أهميته. [ينظر للمزيد من المزايا والخصائص لهذه المسانيد: المدخل إلى تخريج الأحاديث والآثار والحكم عليها ص/47 للدكتور أبي بكر عبد الصمد ، والمسانيد نشأتها، وأنواعها، وطريقة ترتيبها:(26/ 94) للدكتور دخيل بن صالح اللحيدان].
-نبذةٌ مختصرةٌ عن جهود العلماء في التأليف فيها:
بدأت عناية أهل العلم بتأليف المسانيد في أوائل عصر تدوين أصول المصادر الحديثية، وذلك بالتحديد في أواخر القرن الثاني الهجري ومطلع القرن الثالث الهجري، وذلك عندما وجد الأئمَّة المؤلفات الموجودة في عصرهم من الجوامع والمصنفات أنها تجمع في طياتها ما يسمى بالحديث الموقوف والمقطوع مع الحديث المرفوع؛ فأرادوا إفراد حديث الرسول صلّى الله عليه وسلم وتصنيفه مستقلًا عن أقوال الصحابة والتابعين والمرويات الموقوفة عليهم، فابتكروا لذلك "المسانيد”، جمعوا فيها الحديث النبوي مرتَّبًا على أسماء الصحابة؛ فالأحاديث التي تروى بالأسانيد عن أبي بكر رضي الله عنْه مثلاً، تجمع كلها في مكان واحد تحت عنوان:”مسند أبي بكر” والأحاديث التي تروى عن عمر رضي الله عنْه تجمع كلها وتروى بأسانيدها في مكان واحد تحت عنوان "مسند عمر بن الخطاب”، وهكذا إلى آخر الكتاب.
وقد يُقْتصر في بعض كتب المسانيد على أحاديث صحابي واحد، وأخرى تجمع أحاديث أكثر من صحابي، أو طائفة مخصوصة جمعها وصف واحد كمسند المقلين ومسند الصحابة الذين نزلوا مصر إلى غير ذلك.[ينظر للتفصيل: الرسالة المستطرفة (ص/60)، وعلم تخريج الحديث ليوسف المرعشلي (168)، وقواعد التحديث للقاسمي (ص/70)، وتدوين السنة النبوية في القرنين الثاني والثالث لمحمد بن صادق (ص/22).
فيُعَدُّ تصنيف "المسانيد” توجُّهًا موفَّقًا من المحدثين نحو إفراد الأحاديث المرفوعة بالجمع والتدوين دون غيرها من الموقوف والمقطوع، كما كان الحال في السابق ؛ لأن الحجة تقوم بالسنة النبوية بعد كلام الله تعالى.
وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر(ت 852هـ): «..إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أنْ يُفْرِدَ حديث النبي خاصةً، وذلك على رأس المئتين، فصنَّف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي(ت 213هـ) مسندًا، وصنَّف مسدَّد بن مسرهد البصري(ت 228هـ) مسندًا، وصنف أسد بن موسى الأموي(ت 212هـ) مسندًا، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي(ت 228هـ) نزيل مصر مسندًا، ثم اقتفى الأئمَّة بعد ذلك أثرهم فقلَّ إمامٌ من الحفاظ إلا وصنَّف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل(ت 241هـ) وإسحاق ابن راهويه (ت 238هـ) وعثمان ابن أبي شيبة(ت 239هـ) وغيرهم من النبلاء». [ انظر: فتح الباري لابن حجر (1/6].
ومن أشهر كتب المسانيد المطبوعة:
– مسند أبي داود سليمان بن داود الطيالسي (ت 204هـ)، لم يصلنا كاملاً، وإنَّما وصلنا جزء منه، وقد طبع في حيدر آباد بالهند عام 1321هـ/1903م، ثم صوّرته دار المعرفة – بيروت. وغيرها من دور النشر.
– مسند أبي يعلى أحمد بن علي الموصلي (ت 307هـ) طبع بتحقيق حسين سليم أسد، من دار المأمون للتراث – دمشق، الطبعة: الأولى، 1404 – 1984.
– مسند أبي سعيد الهيثم بن كليب الشاشي (ت 335هـ) طبع بتحقيق محفوظ الرحمن، من مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة: الأولى، 1410 هـ .
– طريقة ترتيب كتب المسانيد:
قال الخطيب البغدادي: «الاختيار في تخريج المسند إلى المصنف، فإن شاء رتب أسماء الصحابة على حروف المعجم من أوائل الأسماء؛ فيبدأ بأبي بن كعب وأسامة بن زيد ومن يليهما، وإن شاء رتبها على القبائل فيبدأ ببني هاشم ثم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله في النسب، وإن شاء رتبها على قدر سوابق الصحابة في الإسلام ومحلهم من الدين».(انظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/292).
ونحو هذا الكلام قاله النووي، والسخاوي؛ وقبلهما ابن الصلاح؛ غير أنه زاد فيه؛ فقال: «وفي ذلك من وجوه الترتيب غير ذلك» وتبعه الكتاني في هذه الزيادة؛ فلم يحصر ترتيب المسانيد على الأنواع الثلاثة.[ينظر: الرسالة المستطرفة (ص/60)، وتدوين السنة النبوية لمحمد مطر الزهراني (ص/100)، والتقريب والتيسير للنووي (ص/ 83)، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث (3/320)، ومقدمة ابن الصلاح (ص/253)، والرسالة المستطرفة (ص/ 60].
فخلاصة كلامهم: أن للعلماء في ترتيب كتب المسانيد مسالك شتى، أشهرها ثلاثة:
1- ترتيب أسماء الصحابة على حروف المعجم من أوائل الأسماء، فيبدأ -مثلاً- بأُبيّ ابن كعب، ثم أسامة بن زيد، ثم أنس بن مالك وهكذا، إلى آخر الحروف. وقد مثَّل السخاويُّ لهذا النوع بكتاب "المعجم الكبير” للطبراني، و”الأحاديث المختارة” للضياء المقدسي. وقد تقدَّم أن هذين الكتابين ينطبق عليهما تعريف المسند الاصطلاحي، ولم يُسمَّيا به.[ينظر: فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (3/321].
والكتابان قُدِّمَ فيهما العشرة المبشرين بالجنة على غيرهم ثم على حروف المعجم في البقية. [ينظر: مقدمة المعجم الكبير (1/ 51-157)، ومقدمة المحقق للأحاديث المختارة(1/16].
ولم أقف على أيِّ كتاب من الكتب المطبوعة المسماة بالمسانيد ما يكون مرتباً على الهجاء. والله أعلم.
2- الترتيب على القبائل فيبدأ ببني هاشم، ثم الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب، ثم مَنْ يليهم. وينطبق هذا الترتيب على الكتاب المعني بالدراسة (مسند البزار) فهو مرتب على القبائل على حدٍّ ما؛ إذ فيه ذِكرُ الصحابة على القبائل، ولكن اختل هذا الترتيب في أوائل الكتاب؛ حيث بدأ المؤلف بذكر مسانيد الخلفاء الأربعة ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة.
3- الترتيب على قدر سوابق الصحابة في الإسلام ومحلهم في الدين، فيبدأ بالعشرة المبَشَّرين بالجنة -رضوان الله عليهم-، ثم المقدمين من أهل بدر، ثم يلونهم أهل بيعة الرضوان بالحديبية…وهكذا. ويمثل هذا النوع عدد من المسانيد في الجملة، مثلاً مسند الطيالسي، ومسند الحميدي، ومسند أبي يعلى الموصلي. ولكن هذا النوع من الترتيب أيضًا لم ينهجه المؤلفون عليه كمنهج ثابت ودقيق؛ حيث يتفق الجميع على عناصره المذكورة بالدقة؛ بل يتفقون على بعضها كاتفاقهم على تقديم العشرة المبشرين، ويختلفون في بعضها الآخر؛ فمنهم من يقدم عائشة ثم أمهات المؤمنين في النساء من الصحابة ويقدم بعضهم فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمن سواها، إلى غير ذلك من الفروق والاختلاف.[ينظر: مقدمة المحقق الدكتور عبد الغفور عبد الحق البلوشي لكتاب "الإمام إسحاق بن راهويه، وكتابه المسند” (ص221-223) والمسانيد نشأتها، وأنواعها، وطريقة ترتيبها (26/117].

موضوع البحث: دراسة كتاب المسند لأبي بكر البزَّار، مع التعريف بمؤلفه؛ وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بالمؤلف، وفيه سبعة مطالب:
المطلب الأول: اسمه، ونسبه، وكنيته، ولقبه:
هو: أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلّاد بن عبيد الله البصريّ، كنيته: أبوبكر، الحافظ الشهير، المعروف بالبَزّار.
والبَزّار: اسم لمن يخرج الدهن من البزْر أو يبيعه.[ينظر: طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها (3/ 386) (421)، وتاريخ أصبهان (1/138) وتاريخ بغداد (5/548)، والأنساب للسمعاني (2/ 194)، والقاموس المحيط (349)، وتاج العروس (10/166)].

المطلب الثاني: مولده:
ولد بالبصرة، سنة نيف عشرة ومئتين. [ينظر: تاريخ بغداد (5/548) (2426)، وسير أعلام النبلاء (13/554) (281)، ومعجم المؤلفين (2/36)].

المطلب الثالث: مصنفاته:
كان الحافظ أبو بكر البزار ذا مصنفات عديدة؛ غير أن جُلَّها مفقود إلى الآن -فيما أعلم- إلا كتابه (المسند) الذي نتحدَّث عنه، ومن الكتب التي ذكرها العلماء له ما يلي:
1- المسند الكبير المعلل -وهو موضوع دراستنا-.
2- الأشربة وتحريم السكر.
3- المسند الصغير الذي حدث به بأصبهان.
4- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم.
5- شرح موطأ مالك. [ ينظر: مقدمة المحقق الدكتور محفوظ الرحمن لمسند البزار(1/14). وفهرسة ابن خير الإشبيلي (ص229). والمعجم المفهرس لابن حجر (ص:139). والرسالة المستطرفة (ص68)].

المطلب الرابع: مكانته العلمية:
تبوَّأ الحافظ أبو بكر البزّار مكانةً عاليةً رفيعةً عند العلماء، ومما يبرز هذه المكانة أمران أساسيان: الأول: ما سبقت الإشارة إليه في مؤلفاته، فقد ألَّف مؤلفات عديدة متنوعة، ولا شك أنها تدل على غزارة علمه، وتبحره في فنون من العلم.
الثاني: ما وُصف به بألسنة الأئمة الجهابذة: من الإمامة، والحفظ المتقن، والثقة في الحديث، وتضلعه في علم العلل الذي يعتبر من أصعب العلوم وأدقِّها.
فقال أبو سعيد بنُ يونس: «حافظٌ للحديث».وقال أبو يوسف يعقوب بنُ المبارك: «ما رأيت أنبل من البزار ولا أحفظ».وقال أبو الشيخ الأصبهاني: «وكان أحد حفاظ الدنيا رأسًا فيه، حكي أنه لم يكن بعد علي بن المديني أعلمَ بالحديث منه، اجتمع عليه حفّاظُ أهل بغداد، فبركوا بين يديه، فكتبوا عنه». وقال الخطيب البغدادي:«كان ثقة حافظًا، صنف المسند وتكلَّم على الأحاديث وبيَّن عللها». وقال السمعانيُّ:«كان حافظًا من أهل البصرة،… وكان ثقةً صنَّف المسند وتكلم على الأحاديث وبيَّن عِلَلَها» وقال ابنُ القطان الفاسي: «كان أحفظ الناس للحديث» وقال الذهبي: «الشيخ، الإمام، الحافظ الكبير صاحب المسند الكبير، الذي تكلَّم على أسانيده» [ينظر: تاريخ بغداد (5/95)(2473). وطبقات المحدثين بأصبهان (3/386) والأنساب للسمعاني (2/195). ولسان الميزان (1/238). وتذكرة الحفاظ (2/166). وسير أعلام النبلاء (13/554) (281)].

المطلب الخامس: مكانته في الجرح والتعديل:
يُعدّ الحافظ أبو بكر البزار -رحمه الله- ممَّن من كان إذا تكلَّم في الرجال قُبِل قولُه، ورُجع إلى نقده، وقد ذكره الذهبيُّ، وكذا السخاويُّ من الأئمة الذين يُعتَمَدُ قولُهم في هذا الباب. [ينظر: ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل(200)، والمتكلمون في الرجال (109)].

المطلب السادس: ما أُخِذ على المؤلف أبي بكر البزار، والتماس العذر له:
مع جلالة هذا الإمام ومكانته العلمية كما تقدّم في أقوال الأئمة فإنَّه أخذ عليه: بأنه يخطئ في الإسناد والمتن. قال أبو أحمد الحاكم: «يخطئ في الإسناد والمتن». وقال الدارقطني: «ثقة يخطئ كثيرًا ويتَّكِلُ على حفظه».وقال الدارقطني أيضًا: «يخطئ في الإسناد والمتن؛ حدَّث بالمسند بمصر حفظًا ينظر في كتب الناس، ويحدث من حفظه، ولم تكن معه كتب؛ فأخطأ في أحاديث كثيرة، يتكلمون فيه جرحه أبو عبد الرحمن النسائي».
وفي كلام الدار قطني:ما يمكن به التماس العذر للحافظ البزار-رحمه الله- بأنَّه كان يحدِّثُ من حفظه، ولم تكن معه كتبه فأخطأ في أحاديث كثيرة، بالإضافة إلى ما قيل بأنَّ سفره للتّحديث كان في الشيخوخة.
قال الذهبي: «وقد ارتحل في الشيخوخة ناشرًا لحديثه، فحدَّث بأصبهان عن الكبار، وببغداد، ومصر، ومكة، والرملة».
وكذا دافع عنه الحافظ ابنُ حجر في بعض ما وُهِّم فيه من الدارقطني وغيره
فالرجل كان ثقة ًفي أصله؛ ولذا أودعه الذهبي في كتابه:” من تكلم فيه وهو موثق” ثم إنَّ هذا لا يضر بقيمة الكتاب؛ لأنَّ المصنف يعتمد فيه على ما كتبه عن الرواة الذين تلقى عنهم. والله أعلم. [ينظر: ميزان الاعتدال (1/124) (505). وسير أعلام النبلاء (13/556). وسؤالات حمزة للدارقطني (ص/ 137) (116). وسؤالات الحاكم للدارقطني (ص/92) (23). ولسان الميزان (1/237-239) رقم(750)].

المطلب السابع: وفاته:
توفي -رحمه الله- بالرَّمْلة، بعيدًا عن مسقط رأسه البصرة، وذلك سنة اثنتين وتسعين ومئتين. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته. [طبقات المحدثين بأصبهان (3/ 386) (421). وسير أعلام النبلاء (13/ 556).].

المبحث الثاني: التعريف بالكتاب، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: بيان اسم الكتاب، وتوثيق نسبته إلى المؤلف؛ وفيه فرعان:
الفرع الأول: بيان اسم الكتاب:
لم أقِفْ على تسمية المؤلِّف للكتاب باسم مخصوص، وقد ذُكر اسمُ الكتاب في المصادر العلمية، وكتب الفهارس على أوجه:
1-(المسند الكبير المعلل) ذكره بهذا الاسم ابن عبد الهادي، والذهبي في كتبهما. [طبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (2/ 364)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (2/ 166)].
2- (المسند الكبير) ذكره بهذا أيضًا الذهبي في كتبه، وابن عماد.[ينظر: السير (13/554)، والعبر في خبر من غبر (1/422)، وشذرات الذهب(2/208)].
3- (البحر الزخار) وبه سمّاه الهيثمي في كشف الأستار، وطبع الكتاب باسم: "البحر الزخار المعروف بمسند البزار” بتحقيق الشيخ محفوظ الرحمن السلفي -رحمه الله-.
4- (البحر الزاخر)، وبه سمّاه الكَتَّانيُّ.[الرسالة المستَطْرَفة: 68].
5- (مسند البزار) جاء هذا الاسم على بعض النسخ التي عثر عليها المحقق الشيخ محفوظ الرحمن زين الله السلفي-رحمه الله- ، وهذا العنوان هو المشهور المتداول في كلام العلماء قديمًا وحديثًا. [ ينظر: مقدمة المحقق للكتاب:1/44-45. ومعجم أصحاب القاضي أبي علي (ص: 99)، وطبقات علماء الحديث (3/ 348)، وسير أعلام النبلاء (21/ 314) وإكمال تهذيب الكمال 2/354، رقم:680، وتحفة التحصيل (ص/ 36)، والإصابة في تمييز الصحابة (1/ 104)].
6- (المسند) جاء هذا على بعض النسخ التي اعتمد عليها المحقق محفوظ الرحمن. [مقدمة المحقق للكتاب:1/44-45.].
والاسم الأخير (المسند) هو الأرجح والأدق من ناحية التسمية للكتاب، والذي قبله قريب منه؛ إذ حذفت الألف واللام وأضيف اللفظ إلى مصنف الكتاب، وأما بقيّة العناوين: فهي أقرب إلى الوصف من التسمية للكتاب. والله أعلم بالصواب.
قال الشيخ حاتم العوني في كتابه (العنوان الصحيح للكتاب ص65): «طُبِع الكتاب الجليل بهذا العنوان[أي: البحر الزخار] بتحقيق محفوظ الرحمن زين الله(ت1418هـ) مع أن جميع النسخ التي اعتمد عليها المحقق لم يأت فيها بهذا العنوان، وإنّما سُمّي الكتاب فيهابـ (مسند البزار) ولعل أصل العنوان هو: (المسند) فحذفت الألف واللام، وأضيف اللفظ إلى مصنِّف الكتاب، كما حصل مع أمثاله من كتب المسانيد».
وقال الشيخ علي بن عبد الله الصياح: « وقد طبع باسم”البحر الزخار” وعندي تحفظ على هذه التسمية؛ فجميع الأصول الخطية للمسند، وكذلك جميع من ذكره من المتقدمين والمتأخرين -ومنها كتب الفهرست والمعاجم التي هي مظنة لذكر اسم الكتاب كاملًا- سماه المسند فقط، وما اعتمده المحقق من قول الهيثمي، فأقول: ربما كان مقصد الهيثمي الوصف دون التسمية، وقد نقد هذا الاسم فيصل اللحياني في رسالته العلمية -ماجستير- (مسند البزار-تحقيق ودراسة ». [ينظر: جهود المحدثين في بيان علل الحديث 101.].
الفرع الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:
أطبق العلماء من المحدّثين والمؤرّخين وأصحاب كتب الفهارس وغيرهم أنَّ الحافظ البزار قد ألَّف كتابًا حديثيًّا حافلًا في العلل، وقد رتبه على المسانيد، وقد تقدّمت الإشارة إليه في المطلب السابق، وأُوْرِدُ هنا بعض القرائن الوطيدة التي تدلّ على أن الكتاب الذي بين أيدينا هو الكتاب نفسه، ومن هذه القرائن: ما يلي:
1- النقول من الكتاب والعزو إليه، مع تسميته ونسبته له، ووجود هذه النقول فيه، وقد نقل عنه: عامة العلماء الذين جاؤوا من بعده.
قال أبو الشيخ الأصبهاني:«قال البزار: هكذا يرويه محمد بن سليمان، و غير محمد بن سليمان ، إنما يرويه عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن محمد بن علي». والكلام موجود في مسند البزار. [ ينظر: طبقات المحدثين (2/ 144). مسند البزار (4/ 34) (1195).]
وإليك مثالاً آخر على هذا، قال الحافظ في الفتح -وهو يشرح حديث: «إن ابني هذا سيد، وإن الله سيصلح به بين فئتين من المسلمين»- : قال البزار: رُوي هذا الحديث عن أبي بكرة وعن جابر وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن إسنادًا وحديث جابر غريب».
والكلام بتمامه موجود في مسند البزار. [ينظر: فتح الباري لابن حجر (13/ 66).ومسند البزار (9/ 110) رقم(3656)].
2- أن الأحاديث الموجودة في هذا الكتاب تبدأ أسانيدها من مشايخ البزار.
3- في أواخر الحديث يبدأ الكلام عليه بـ (قال أبو بكر) وهي كنية المؤلف.
4- أن الهيثمي قد قام بإفراد أحاديث (مسند البزار) التي زادت على الكتب الستة في تأليف مستقل، سماه” كشف الأستار عن زوائد البزار”؛ وبالمقارنة يتضح جليًّا أنَّ (كشف الأستار) هو زوائد هذا الكتاب الذي بين أيدينا.

المطلب الثاني: تأريخ تأليف الكتاب، مع ذكر سبب التأليف:
لم يتبين لي تأريخ تأليفه تحديدًا، فلم أقف على شيء أفيد منه في هذا.
وأما سبب تأليفه لكتابه، فيمكن أن نستنبطه من صنيعه -رحمه الله- بأنّه أراد تقريب السنة للناس؛ إذ جمع أحاديث الصحابة في مكان واحد، فأورد في الكتاب من الأحاديث الصحيحة، والحسنة بأسانيده، كما أورد الأحاديث الضعيفة والمعلة، وبيَّن عللها لا سيما إذا لم يجد الأحاديث الصحيحة والحسنة؛ فهو كما يقول: «وإنما ذكرنا هذا الحديث لأنّا لم نحفظه إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، فذكرناه وبينا العلة فيه».ويقول أيضًا: «ولكن لما لم نحفظ هذا الكلام عن النبيّ صلى الله عليْه وسلم إلا برواية زَنْفل لم نجد بُدًّا من كتابته، ونبـيّـن العلة فيه». وأيضا: «ولا يحفظ هذا الكلام بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه وحده، فلذلك كتبناه وبيَّنَّا العلة فيه». [ ينظر: مسند البزار (1/ 153) وفي (1/185) وفي(1/195)].
فهكذا ساهم هذا الإمام في فن علل الحديث الذي يعتبر من أجل علوم الحديث وأشرفها، وأدقها. والله أعلم بالصواب.

المطلب الثالث: منهج المؤلف في الكتاب، وطريقة ترتيبه:
يمكن أن نلخِّص منهج المؤلف في هذا الكتاب في النقاط التالية:
1- رتَّب المؤلف كتابه على مسانيد الصحابة، ولم يراع في ترتيب أسماء الصحابة ترتيبًا معجميًّا.
2- بدأ بذكر مسانيد الخلفاء الأربعة، ثم باقي العشرة المبشرين بالجنّة، ثم مسند العباس فالحسن والحسين وغيرهم رضوان الله عليهم.
3- رتَّبَ الأحاديث تحت الصحابي على أسماء الرواة عنه، فقال: مثلاً: «ما روى عثمان عن أبي بكر» «ومما روى علي بن أبي طالب عن أبي بكر» وهكذا.
4- فإن كان الصحابي مكثرًا لم يكتف بترتيبها على الرواة عن الصحابة؛ بل رتَّب على الرواة عمن رواه عن الصحابة، أو على الرواة عن من رواه عن الرواة من الصحابة، فمثلاً يقول: «ومما روى طاوس، عن ابن عباس، عن عمر».«ومما روى محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر عن عمر».
5- ذكر الأحاديث مسندةً إلا إذا ورد الحديث في أثناء الكلام على الأحاديث، أو لبيان أنه ترك هذا الحديث لعلة كذا، فربما علق السند أو بعضه، ولا يذكر السند من عنده.
6- غالبًا يبدأ بذكر إسناد الحديث قبل المتن إلا إذا جاء الحديث في أثناء الكلام عليه فحينئذ أحياناً يؤخر السند.
7- غالباً يذكر المتن مفصلاً ولا يكتفي بالإشارة أو بذكر الأطراف إلا إذا كان من الأحاديث التي يذكر سبب تركها أو إذا كان المتن طويلاً وفيه قصة، فأحيانًا يختصر المتن ويشير إلى القصة.
8- أحيانًا بعدما يسرد المتن بسند؛ يتبعه بسند آخر، ويقول: مثله أو نحوه.
9- بعدما ينتهي من ذكر المتن يتكلم في الحديث ويصدّر كلامه غالبًا بقوله: قال أبو بكر.
10-كثيرًا ما يذكر في العلل بتفرد الراوي فيقول مثلاً: «وهذا الحديث لا نعلم رواه عن فلان، إلا فلان». أو نحوه من العبارات.
11- أحيانًا يتكلم في الحديث فيذكر الخلاف على الرواة، ويتوسع في ذكر الطرق وبيان العلل فيه.
12-أحيانًا يشير إلى المتابعات والشواهد للحديث الذي ذكره.
13- أحيانًا يحكم على الحديث، فيقول مثلا: «هذا الحديث حسن الإسناد» أو:«إسناده صحيح». ولم ينقل أقوال العلماء الآخرين إلا قليلًا.
14- في الحكم على الرواة لا يستعمل البزار الألفاظ الغليظة: كالكذاب والوضّاع؛ بل هو لطيف العبارة، فيقول مثلا: « ليّن الحديث»، مع أن العلماء الآخرين كذبوه، أو قالوا فيه: «متروك».
15- أحيانًا يذكر بعض قواعد مصطلح الحديث ويبين رأيه فيها، فيقول مثلًا: «زيادة الحافظ مقبولة» أو:«والحديث لمن زاد إذا كان ثقة» . [كل هذا الكلام في هذه الفقرة عن منهج المؤلف و طريقة ترتيبه: باستقراء الكتاب مع الاستفادة من مقدمة المحقق].

المطلب الرابع: أهمية الكتاب، وثناء العلماء عليه:
المسند لأبي بكر البزار كنزٌ لمن ملكه، وبحر لمن قصده، لا تخفى مكانته على من طالعه وأمعن النظر فيما احتواه، وتتجلى أهميته في النقاط التالية:
1- تظهر مكانته أولا من مكانة مؤلفه، فهو من النقاد المحدثين، ومن الحفاظ المتقنين.
2- ثانيًا بكونه من المسانيد التي هي من أصول المصادر الحديثية وقد تقدم بيان أهمية كتب المسانيد.
3- زيادةً على ما يكون في كتب المسانيد من الفوائد فقد تميَّز المؤلف بالتنبيه على انفرادات الراوي، فيقول: لا نعلمه يروي عن فلان إلا فلان. وما يتبع ذلك من وجود علة أو نحو ذلك، فهذا الكتاب يعد من الأصول في معرفة الأحاديث المعلة. فهو مليء بالإعلالات، وقد أثنى عليه ابن كثير فقال: «ويقع في مسند الحافظ أبي بكر البزار من التعاليل ما لا يوجد في غيره من المسانيد».[ انظر: الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث (ص: 64)]
وقال الهيثمي: «فقد رأيت مسند الإمام أبي بكر البزار المسمى بـــ” البحر الزخار” قد حوى جملة من الفوائد الغزار، يصعب التوصل إليها على من التمسها، ويطول ذلك عليه قبل أن يخرجها، فأردت أن أتتبع ما زاد فيه على الكتب الستة». [كشف الأستار عن زوائد البزار 1/5.]
وقال الحافظ ابن حجر: «من مظان الأحاديث الأفراد مسند أبي بكر البزار، فإنه أكثر فيه من إيراد ذلك وبيانه، وتبعه أبو القاسم الطبراني في "المعجم الأوسط” ثم الدارقطني في "كتاب الأفراد”، وهو ينبئ على اطلاع بالغ».[النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/708).].
4- انفراده بأحاديث كثيرة لم يذكرها أصحاب الأصول الستة، وأصحاب الكتب المؤلفة في العلل؛ فهذه الكتب تتكامل ولا يسد أحدها مكان الآخر.

المطلب الخامس: مخطوطات، وطبعات الكتاب؛ وفيه فرعان:
الفرع الأول : مخطوطات الكتاب، وأماكن وجودها:
ذكر المحقق الدكتور محفوظ زين الله السلفي خمس نسخ خطية للكتاب، عثر عليها حين تحقيقه للكتاب، وهي كالتالي:
1- نسخة مكتبة (مراد ملا بتركيا) برقم(572).
2- نسخة مكتبة الأوقاف التي تضمنتها (الخزانة العامة) بالرباط برقم(243).
3- نسخة (مكتبة الكتاني) التي تضمها (الخزانة العامة) بالرباط برقم(393).
4- نسخة المكتبة الأزهرية بالقاهرة برقم(924) (925).
5- نسخة مكتبة (كوبريلي) بتركيا برقم(429).
واعتمد المحقق على نسخة (مراد ملا) وجعلها أصلاً؛ لأنها أقدم النسخ، وقد كتبت في القرن الخامس الهجري. وعلى هذه النسخ الخمس تم تحقيق الكتاب إلى المجلد السابع عشر. ثم عثر الشيخ صبري بن عبد الخالق -المحقق الثالث للكتاب- على صورة نسخةٍ من مخطوطات الكتاب في دار الكتب المصرية برقم (826) ولم يقف على المكان الأصلي الذي كانت به هذه النسخة، وهذه النسخة تشتمل على قطعتين من مسند الصديقة عائشة رضي الله عنْها وبعض أوراق من مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، وجاء المجلد الثامن عشر من المطبوع على هذه النسخة. ومن حديث المحققين عن وصف النسخ الخطية يُعلم أنهم لم يحصلوا على نسخة كاملة للكتاب. فالكتاب لا زال ناقصًا لوجود السقط في النسخ التي تم التحقيق عليها؛ لا سيما في أوله. [ينظر: مقدمة المحقق الأول للكتاب:(1/43-48)، ومقدمة المحقق الثالث:( 18/15)].
الفرع الثاني: طبعات الكتاب:
لم أجد للكتاب غير طبعة واحدة، وهي طبعة مكتبة العلوم والحكم، بالمدينة المنورة، خرج الكتاب في ثمانية عشر مجلداً، قام بتحقيقه ثلاثة من المحققين، وهم:
1- الشيخ محفوظ الرحمن زين الله حقق إلى المجلد التاسع.
2- الشيخ عادل بن سعد حقق إلى السابع عشر.
3- الشيخ صبري بن عبد الخالق حقق المجلد الثامن عشر.
وقد قام المحققون بعمل جيد، وحسب ما تيسر لهم من ضبط النص، والتعليق والتخريج، وشرح الغريب وعمل الفهرسة للكتاب، فجزاهم الله أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة.

الخاتمة:
في ختام هذا البحث أسجل النتائج التالية:
1- تُعد كتب المسانيد من أهم مصادر الحديث النبوي المتقدِّمة الأصيلة؛ وقد بدأت عناية العلماء بالتأليف فيها مبكّرًا، وبالتحديد في أواخر القرن الثاني الهجري ومطلع القرن الثالث الهجري.
2- الغاية الأولى من الكتاب المسند هي جمع الأحاديث النبوية وحدها، حتى لايمتزج بها شيء من غير الحديث النبوي، وكذلك جمع أحاديث الصحابي الواحد في مكان واحد.
3- مرتبة كتب المسانيد بعد مرتبة المصنفات على الأبواب -وهذا من حيث الأصل-؛ لأنهم اعتنوا بالجمع في الغالب دون النظر إلى ما يصلح للاحتجاج وما ليس كذلك.
4- من أهم كتب المسانيد كتاب الحافظ أبي بكر البزار رحمه الله، ومسنده يشتمل في الإجمال على الفوائد التي تشتمل عليها كتب المسانيد، ويتميز عنها بفوائد أخرى غزيرة من بيان العلل والكلام على الرواة جرحاً وتعديلاً، والحكم على الأحاديث؛ فهي لا تكاد توجد في أغلب المسانيد الأخرى.

و في ختام هذا البحث أوصي بما يلي:
1- الاهتمام البالغ بإخراج كتب المسانيد وإحيائها، باستخراج مخطوطاتها وتحقيقها على أصول التحقيق العلمي والتعليق عليها.
2- دراسة أقوال أبي بكر البزار في الرجال جرحًا وتعديلاً من خلال مسنده، لتتضح درجته بين الأئمة النقاد في هذا الباب، فلم أقف -في حدود بحثي- على دراسة مفصلة في هذا الجانب.
3- استخراج قواعد النقد الحديثية من كتاب أبي بكر البزار؛ فهذا الكتاب يعد من أهم الأصول في معرفة الأحاديث المعلة.
وصلى الله وسلم على النبي الأمين والحمد لله رب العالمين.

2
Leave a Reply

avatar
3000
2 Comment threads
0 Thread replies
0 Followers
 
Most reacted comment
Hottest comment thread
2 Comment authors
أبو عبد الله الجوطيولي الله هري هراوي Recent comment authors
  Subscribe  
newest oldest most voted
Notify of
ولي الله هري هراوي
Guest
ولي الله هري هراوي
زادكم الله علما .
وجزاكم الله خيرا وبارك الله فيكم ونفع بكم الاسلام والمسلمين.
أبو عبد الله الجوطي
Guest
أبو عبد الله الجوطي

أحسن الله إليك ووفقك