[سطر هذا المقال يراعُ أحد تلاميذنا الأخ العزيز : برويز عالم (طالب السنة النهائية للفضيلة بالجامعة الإسلامية فيض عام، مئو، الهند)، عرفتُ الأخ – خلالَ تتلمُذه عليّ – طالبًا مجتهدًا، حريصًا على طلب العلم، مواظبًا على الدراسة، سررتُ جدا بعد استلام مقاله هذا، والنظر فيه، لما أنه يتمتع بأسلوب جيد ولغة حسنة، وإنني إذ أُبدي فرحي = أدعو له دوام التوفيق والسداد والمواظبة والمثابرة، فإن المستقبل الزاهر يتنظر أمثاله. (المباركفوري)].
عندما نلقي نظرة خاطفة على صفحات التاريخ = نجد سلفنا أنهم وقفوا حياتهم للحفاظ على الكيان الإسلامي، والاحتفاظ بالكرامة الإنسانية، والمروءة البشرية، والشعائر الدينية، وبذلوا ما كان في وسعهم من الجهود الجبارة والتضحيات الجسيمة للتحلّي بالعلوم الدينية التي تشمل جميع الفنون من الفقه والحديث والسيرة والتفسير وما إلى ذلك من العلوم، التي تؤدي دورا هاما فى بقاء حيز الإسلام، وركزوا كل ما آتىٰهم الله من الكفاءات والقدرات والمواهب وللباقات على جمع الدرر المتناثرة واللآلي المبعثرة والأزهار الجميلة من العلوم والآداب، وقاموا بالرحلات والأسفار إلى فج عميق، آكلين السويق، ماشين على الأقدام، ليمهدوا المجالات العلمية للذين يخلُفونهم من الجيل الصاعد فى الأيام المقبلة.
وسهروا ليالي متواليات، مستغرقين فى المطالعة، مشتغلين بالدراسة العميقة، ويغوصون في أعماق البحار الزاخرة المائجة للعلم والعرفان، ويخرجون بالزبرجد والياقوت والمرجان.
بل تعجز الجمل والكلمات، وتقصر الأوراق والصفحات عن التعبير عما قدّمه السلف من المآثر الجليلة والبطولات العظيمة، وأتوا بالمكرمات المدهشة للعقول، وقاموا – رغم عدم توفر التكنولوجيات والماكينات آنذاك – بما لايقدر الزمان على الإتيان بمثلهم. حتى قال الشاعر:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذاجمعتنا ياجرير المجامع
إخوتنا الأفاضل!
ألا يخطر ببالنا قط؟ ألا يدور في خواطرنا أبدا؟ ألا تذهب أذهاننا إلى أنهم كيف تبحروا في الكتاب والسنة، وكيف تمكنوا من علومهما، حتى يترفرف علَم فضائلهم فى أصقاع العالم، وتلمع نجوم سماء علومهم في أرجائها؟
نعم ! إذا تدبرنا قليلا، واستخدمنا الخبرة، واستعملنا العبرة = يتجلىّ لنا جلاء البدر المنير من الظلام، وينكشف القناع عن الأسباب التي أدّتهم إلى تلك المكانة المرموقة، وتتضح الوجوه التي جعلتهم من جهابذة عصورهم، وأفذاذ دهورهم، وعصامي زمانهم، ونوابغ قرونهم.
هذا ! ولكن الطلاب اليوم لايحملون هدفا، ولايعرفون غاية لحياتهم، ويقضون حياتهم في اللامبالاة واللامقصدية، ولايحددون مرمى لهم، بل أخلدوا إلى ماتستهويه أنفسهم، وانساقوا وراء شهواتهم المتمردة، وآثروا اللذة الفانية الزائلة على اللذة الباقية، واستحبوا الراحة على بذل الجهود المضنية، والعلومُ لاتنال براحة الأجسام.
خمدت مشاعرهم وانطفأت نار الإيمان والوجدان، وأصيبوا بالشلل الفكري، وخواءالروح، وصارت هممهم باردة، وعزائمهم ساقطة ساكنة، يتمنون أن يكونوا في قمة النجاح والفلاح والرقي والازدهار، ولكن حينما يأتي أوان تقديم التضحيات، ويحين حينُ السعي الدؤوب = يتخلفون، ويحسبون كأنهم يصّعّدون فى السماء، وينطبق عليهم ما قال الإمام الشافعي رحمه الله :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لاتجري على اليبس
إنهم قد جعلوا الجوال صديقا حميما، واتخذوه خليلا وفيا، فضلا عن أن يكون جليسهم الكتاب، فأن الكتاب خير جليس في الزمان.
وجعلوا بينهم وبين الكتاب بعدا بعيدا، ووضعوا العراقيل فى طريق نيل العلوم، بل يتركون كتبهم فى الصفوف طوال السنة، لايأتون بها إلى الغرف، ودور المطالعة، وكان السلف رحمهم الله يقرؤن في القعدة والقومة والرقدة واليقظة، ويمشون متأبطين إياها، ويحركون ألسنتهم دائما.
وإن لهذا الجوال جانبين، أولهما : الإيجابي. ثانيهما: السلبي. ولكنهم يوجهون وجوههم إلى الجانب الثاني فى أغلب الأحيان، فتصدق هذه الآية:
»وإثمهما أكبر من نفعهما«
كما رثى الدكتور محمد إقبال لأحوالهم:
وافشلاه! قدضاعت سلعة القافلة ولكن من الأسف لاتشعر بخسارتها وضياعها.
وأضاف قائلا:
لقد تخلف عن الساحات العلمية والمجالات الفنية القومُ الذين بدأ تاريخهم بلفظ "إقرأ”.
فيا من وطن نفسه للعلم!!
فلتنتهزوا هذه الفرصة، ولتغتنموا الأوقات الثمينة الغالية التي لاتعود مرة أخرى، ولاترجع أدراجها أبدا بعد مضيّها، ولاتتكرر في الحياة ثانية، ولذا جاء في الحديث الصحيح :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه : »اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناءك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك«.
إخوتي الأماثل!
كونوا أمناء الذات، وترجمان الرب، واسربوا أغوار أنفسكم، وجددوا فيكم الإيمان واليقين، لقد اعتراكم الوهن والتساهل والتغافل، وساوركم التغاضي والتعامي عن الحق، واستولى عليكم اليأس والقنوط والجمود والتعطل، وشغلتم عن عظائم الأمور، ووقعتم فيما لاجدوي لكم من المغريات الجامحة والحياة الباذخة المزركشة.
فعودوا مرة ثانية إلى دروس الصدق والعدالة والشجاعة والبطولة والرشد والهداية، وإلى ماكانوا عليه سلفنا الصالح فى سبيل التعليم والتعلم وجميع المجالات، حتى يشار إليكم بالأصابع، ويخضع لكم عبقرية العصر، وتكون قيادة العالم البشري في أيديكم، فالكون كله في انتظاركم، ويتطلع إليكم، ويستشرف نحوَكم، وينظر إليكم نظرة شزراء غائرة.
فعليكم أن تحققوا ماتتمناه الأمة الإسلامية تجاهكم، قافزين فى خضم بحر العمل والممارسة، غائصين فى غوره.
والله هو الموفق المعين.