الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنّ استعمالَ الكلمات في غير مواضعها، وإطلاقَ الأسماء على غير مُسمَّياتها من الظلم الذي لا يرتاب فيه عاقل؛ لما فيه من تغييرٍ للحقيقة، وتضييعٍ للأمانة، وتغريرٍ بالسامعين، وتضليلٍ لهم.
وإنّ من الكلمات التي ظُلِمت ظلمًا بيِّنًا، حتى كادت تفقد مصداقيتَها عند كثيرٍ من الطلبة، فضلًا عن العامة -لشيوع إطلاقها على كلّ من هبّ ودبّ-: كلمةَ "العالم” التي ابتُذلت ابتذالًا سخيفًا في الآونة الأخيرة، يندى له جبينُ العلم والحقيقة، فالله المستعان.
فها هي تُطلَق على كُلِّ من تخرّج في مدرسةٍ دينيةٍ، أو شدا طرفًا من العلوم الشرعية، أو حمل شهادةً فيها، أو قام بدراسة مسائل معدودة، أو ألقى محاضراتٍ وخُطبًا دينيةً، أو نقل فتاوى العلماء بلغته إلى العامة وإن لم يُدرك وجهها، أو درّس بعض المواد الإسلامية في المعاهد والمدارس، أو عمل في حقل الدعوة والإرشاد، وإن لم تكتمل له بعدُ الأدوات التي تؤهلّه لبلوغ هذه المنزلة العالية؛ وحتى وإن كان عیالاً على نتاج عقول العلماء، ونتائج دراساتهم للمسائل في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ. وربما لخّص بعضُهم ما كتبه أحدُ العلماء المعروفين، أو رتّب مادةً علميةً متناثرةً من هنا وهناك؛ فحسب أنه بلغ من العلم مبلغًا يستحقّ به أن يُعدّ في العلماء.
وهذه ظاهرةٌ مؤلمةٌ، ومُشكلةٌ كبيرةٌ؛ تتطلّب التصدي لها بحكمةٍ ورويّة؛ حتى لا يستطير شررُها، ويتفاقم شرُّها؛ فيستعصي حلُّها.
فلذا ودِدْتُ -مع قصور باعي، وقلة اطلاعي- أن أنبّه على هذه المسألة، وأذكر ما يلزم مَن يروم نيلَ تلك المنزلة؛ حثًّا لنفسي أوّلًا، ثم لإخواني من طلبة العلم ثانيًا على ملازمة الجدّ والاجتهاد في تحصيلها؛ فأقول مستعينًا بالله:
إنه ينبغي أن نعلم أوّلًا أنّ العالِم بعلمٍ ما؛ لا يُسمَّى عالِمًا بذلك العلم على الإطلاق، حتى تتوفّر فيه أربعةُ شروط:
أحدها: أن يكون قد أحاط علمًا بأصول ذلك العلم على الكمال.
والثاني: أن تكون له قدرةٌ على التعبير عن ذلك العلم.
والثالث: أن يكون عارفًا بما يلزم عنه.
والرابع: أن تكون له قدرةٌ على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم(١).
قال العلامة الشاطبي -رحمه الله-: "من شروطهم في العالم بأيِّ علمٍ اتفق: أن يكون عارفًا بأصوله، وما ينبني عليه ذلك العلم، قادرًا على التعبير عن مقصوده فيه، عارفًا بما يلزم عنه، قائمًا على دفع الشُّبَه الواردة عليه فيه”(٢).
وعلى هذا؛ فالعالم الشرعي هو من أحاط علمًا بأصول الأحكام الشرعية، "وأصول الأحكام في الشرع أربعة:
أحدها: العلمُ بكتاب الله، على الوجه الذي تصحّ به معرفةُ ما تضمّنه من الأحكام: مُحكمًا ومُتشابِهًا، وعمومًا وخصوصًا، ومُجملًا ومُفسّرًا، وناسخًا ومنسوخًا.
والثاني: العلمُ بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرق مجيئها في التواتر والآحاد، والصحة والفساد، وما كان منها على سببٍ أو إطلاقٍ.
والثالث: العلم بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه، واختلفوا فيه؛ ليتبع الإجماع، ويجتهد في الرأي مع الاختلاف.
والرابع: العلم بالقياس الموجب، لردّ الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها، والمجمع عليها” (٣).
ولا يتأهّل المرءُ للإحاطة بهذه الأصول إلا بعد تحصيله قدرًا كافيًا من علوم اللغة العربية، وعلم أصول الفقه، ومصطلح الحديث.
فأما تحصيل علوم اللسان العربي؛ فلأنّ اللغة العربية لغةُ الكتاب والسنة؛ فمن لم يعرفها حقّ معرفتها؛ لم يمكنه فهمُهما، ومعرفةُ معانيهما، والوقوفُ على أحكامهما.
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لا يَعلم مِن إيضاح جُمَل علم الكتاب أحدٌ جهل سعةَ لسان العرب، وكثرةَ وجوهه، وجِماعَ معانيه، وتفرُّقَها”(٤).
وقال إمامُ الحرمين أبو المعالي الجويني -رحمه الله-: "إنّ شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، مُتلقّاها ومُستقاها: الكتابُ والسننُ، وآثارُ الصحابة ووقائعُهم، وأقضيتُهم في الأحكام؛ وكُلُّها بأفصح اللغات، وأشرف العبارات، ولا بد من الارتواء من العربية؛ فهي الذريعةُ إلى مدارك الشريعة”(٥).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "إنّ نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإنّ فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ثم منها ما هو واجبٌ على الأعيان، ومنها ما هو واجبٌ على الكفاية”(٦).
فأما قدر الواجب العيني فهو ما بيّنه الإمام الشافعي -رحمه الله- حيث قال: "فعلى كلٍّ مسلمٍ أن يتعلّم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمّدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح، والتشهد، وغير ذلك. وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسانَ مَن ختم به نبوته، وأنزل به آخرَ كتبه؛ كان خيرًا له”(٧).
وأما قدر الواجب الكفائي -وهو المقصود بالكلام هنا-؛ فهو معرفة اللسان العربي على وجهٍ يتيسّر له به فهمُ خطاب العرب وعادتِهم في الاستعمال؛ ليُميِّز بين صريح الكلام وظاهره، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصّه، ومنطوقه ومفهومه، حتى تصير له في علوم اللسان ملكةٌ قويةٌ، بحيث يُوثَق بفهمه للكلام العربي من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وكلام الأئمة، ويغلب على الظن إصابتُه ولو بمراجعة الكتب(٨).
نعم، لا يُشترَط أن يبلغ درجةَ أعلام العربية كالخليل والمبرد، وأن يعرف جميع اللغة، ويغوص في أعماق النحو، وإنما يكفي في ذلك أن يُدرك حقائق المقاصد (٩).
قال الجويني: "لا يُشترط التعمّقُ والتبحُّر فيها حتى يصير الرجل علّامة العرب، ولا يقع الاكتفاءُ بالاستطراف، وتحصيل المبادئ والأطراف، بل القولُ الضابطُ في ذلك أن يُحصّل من اللغة والعربية، ما يترقّى به عن رتبة المقلّدين في معرفة الكتاب والسنة، وهذا يستدعي منصبًا وسطًا في علم اللغة والعربية”(١٠).
وأما العلم بأصول الفقه؛ فلما يحصل به من القدرة على استخراج الأحكام الشرعية من أدلّتها على أسسٍ سليمةٍ(١١).
قال السمعاني -رحمه الله-: "أصول الفقه عند الفقهاء هي طريقُ الفقه التي يُؤدِّي الاستدلالُ بها إلى معرفة الأحكام الشرعية”(١٢).
وأما العلم بمصطلح الحديث؛ فلمعرفة صحيح الحديث من سقيمه؛ لِما تقرّر عند أهل العلم من أنه لا يجوز بناءُ الأحكام على الأحاديث الضعيفة؛ فمن لم يعرف صحيحَ الحديث من سقيمه ومقبولَه من معلوله؛ فقد يُقدم على الاحتجاج بالضعيف؛ فيكون قد نسب إلى الشرع ما ليس منه؛ فمِن ثَمّ يتحتّم على العالم الشرعي أن يعلم ما يصلح للاحتجاج به من الأحاديث وما لا يصلح منها لذلك.
قال الإمامان أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه -رحمهما الله-: "إنّ العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم، والناسخ والمنسوخ من الحديث؛ لا يُسمَّى عالِمًا”(١٣).
فمن تمكّن من معرفة ذلك كلِّه معرفةً كافيةً؛ بحيث يُوثَق باستنباطه، ويغلب على الظن عدمُ خطئه ولو بمراجعة الكتب؛ فقد تأهَّل للعلم بكتاب الله تعالى وسنة رسولِه؛ بأن يُمارِس كتابَ الله تعالى بكثرة التلاوة والتدبُّر والتفكُّر، ويُمارِس كتب السنة بالقراءة وتأمّل المعاني وتعرُّف مواقع الأبواب، حتى يصير بحيث يغلب على الظنّ أنه إذا أمعن النظرَ في مسألةٍ؛ فتذكَّر كتابَ الله تعالى، وتصفَّح كتبَ السنة؛ لم يعزُبْ عنه ما فيهما من الدلائل الظاهرة على مسألته، ولا يَشْتَبه عليه ما يُحتَجُّ به من غيره، ولا الناسخُ بالمنسوخ، ولا الراجحُ بالمرجوح، ولا ما يُحتَجّ به من الأحاديث بغيره(١٥).
فمن بلغ في العلم بكتاب الله وسنة رسوله هذا المبلغ؛ فهو الذي يستحقّ اسمَ العالم بحقٍّ؛ لأنه متأهِّلٌ لمعرفة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة(١٦).
ثم إنّ للعالم المتحقِّق بالعلم أماراتٍ وعلاماتٍ؛ أهمّها اثنتان:
الأولى: العملُ بما علم؛ حتى يكون قولُه مطابقًا لفعله، فإن كان مخالفًا له؛ فليس بأهلٍ لأن يؤخذ عنه، ولا أن يُقتدى به في علم. والأخرى: أن يكون ممن ربّاه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ كما كان شأن السلف الصالح(١٦).
فما أحرى بالسالكين في طريق العلم الشرعي أن يجدّوا فيه ويجتهدوا، ويعلَّوا منه وينهلوا؛ حتى تنضج مداركُهم وترسخ أقدامهم فيه؛ وأن لا يستعجلوا التصدّرَ قبل أوانه؛ فيكونوا ممن تزبَّب قبل أن يَتحَصْرَم، ورَاشَ قبل أن يَبري.
ومما يؤسَف له أن يدّعي كثيرٌ من ناشئة الزمان هذا اللقبَ الرفيعَ، وأن يتبجّحوا به، ولم يُحصِّلوا من العلم إلا قشورًا دون اللباب، ولم يأؤوا منه إلى ركنٍ شديدٍ، ولم يَعْتَضِدوا منه بباعٍ مديدٍ، ولم يحظَوا من تربية الشيوخ إلا بقدرٍ زهيدٍ؛ فرحم الله امرءًا عرف قدر نفسه؛ فوقف عند حدّه، والله الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلّت، وإليه أنيب.
الهوامش:
(١) انظر: الإفادات والإنشادات للشاطبي (ص: 107).
(٢) الموافقات (1/ 140).
(٣) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2 /330-331).
(٤) الرسالة (ص: 50).
(٥) غِياث الأمم في الْتياث الظلم (ص: 400).
(٦) اقتضاء الصراط المستقيم (1 /527).
(٧) الرسالة (ص: 47).
(٨) انظر: المستصفى للغزالي (ص: 344) وتحقيق الكلام في المسائل الثلاث للمعلمي (ص: 45).
(٩) انظر: المستصفى (ص: 344).
(١٠) غياث الأمم في الْتياث الظلم (ص: 403).
(١١) انظر: الأصول من علم الأصول لابن عثيمين (ص: 9).
(١٢) قواطع الأدلة في الأصول (1 /21) بتصرف يسير.
(١٣) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص: 60).
(١٤) انظر: تحقيق الكلام في المسائل الثلاث (ص:64).
(١٥) انظر: المصدر السابق (ص:50).
(١٦) انظر: الموافقات (1 /141-142).