الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله وصفيُّه وخليله، صلواتُ ربّـي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومنْ تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين. أما بعد:
فهذا بحثٌ لطيفٌ في التعريف بالإمام الحاكم، وكتابه الشهير”المستدرك على الصحيحين” أُقدِّمه بين أيدي القُرّاء لمجلّة "الأقلام الحرة” راجِيًا من المولى سبحانه أن ينفعهم به، وقد جعلته في مبحَثَيْنِ، وتحتَ كلِّ مبحث منهما مطالب عديدة.
المبحث الأول: في التعريف بالإمام الحاكم رحمه الله، وفيه تسعة مطالب:
المطلب الأول: اسمه ونَسَبه ونِسْبته، ولقبه: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حَمْدَوَيْه بن نعيم الضَّبـِّيُّ الطَّهْمَانِيُّ النيسابوريّ, المعروف بابن البَـيِّع. يقال له: الضَّبـِّيُّ؛ لأنّ جدّ جَدَّتِهِ عيسى بن عبد الرحمن بن سليمان الضَّبِّيُّ، وأُمّ عيسى بن عبد الرحمن مَتُّوَيْه بنت إبراهيم بن طَهْمان الزاهد الفقيه، فلذلك يقال له: الطَّهْمَانِيُّ، وأما النَّيْسابُوري- بفتح النون-؛ فنسبة إلى نيسابور إحدى مدن خراسان، وتقع حاليًا في جمهورية إيران، على بُعْدِ (90) كيلًا من مدينة مَشْهد، وأهل إيران يُسَمُّونها "نيشابور”(NEYSHABUR). [ينظر:”المنتخب”(ص/15)، و”تاريخ الإسلام” (28/127) و "معجم البلدان” (5/331) و”أطلس تاريخ الإِسلام” ص/430].
ويعرف أيضًا بابن البَـيِّع؛ قال السمعاني:«البَيِّع: بفتح الباء الموحدة وكسر الياء المشددة آخر الحروف وفي آخرها العين المهملة، هذه اللفظة لمن يتولّى البياعة والتوسّط في الخانات بين البائع والمشترى من التُّجَّار للأمتعة، واشتهر بهذه النسبة: الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابورىّ» .[ينظر: "الأنساب” للسمعاني” (2/400)].
وعُرف بالحاكم؛ لتقلُّده القضاء. [ ينظر: وفيات الأعيان لابن خلكان (4/281)].
المطلب الثاني: مولده: كانت ولادته في شهر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة من الهجرة بنيسابور.[ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي (28/128)].
المطلب الثالث: نشأته العلميَّة ورحلاته: بدأ الإمام الحاكم رحمه الله طلبَه للعلم من الصِّغر، ونشأ في بيئة علميّة مباركة، قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحنبلي: «وبَيْتـُه بيت الصلاح والورع والثناء».[ ينظر:المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور (ص: 15)]. وقد حرص عليه أهل بيته غاية الحرص، واعتنوا به غاية العناية، فبكَّروا به إلى مجالس العلم والعلماء صغيرًا، فكان أوّل سماعه للحديث سنة ثلاثين وثلاثمائة (330ه) أي وعمره لم يتجاوز سنَّ التاسعة، وقال الخطيب في "تاريخه” (3/509): «وُلد سنةَ إحدى وعشرين وثلاث مائة، وأوّل سماعه في سنة ثلاثين وثلاث مائة». وقال السّمعاني في كتابه "الأنساب” (2/401): «له رحلة إلى العراق، والحجاز، ومرو، وما وراء النهر» وقال الذهبي في "السير” (17/163): «وطلب هذا الشأن في صغره بعناية والده وخاله، وأوّل سماعه كان في سنة ثلاثين، وقد استملى على أبي حاتم ابن حبان في سنة أربع وثلاثين وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ولـحِق الأسانيد العالية بخراسان والعراق وما وراء النهر، وسمع من نحو ألفي شيخٍ، ينقصون أو يزيدون، فإنّه سمع بنيسابور وحدها من ألف نفس، وارتحل إلى العراق وهو ابن عشرين سنة».
المطلب الرابع:شيوخه: كان الإمام الحاكم رحمه الله ممّن توسّع في الرحلة، وأكثر في الشيوخ كما تقدّم في كلام الذهبي رحمه الله، والـمُطالِع لكتابه”المستدرك” يرى كثرةَ هؤلاء الشيوخ الذين روى عنهم وتلمّذ عليهم، ومن أشهر مشايخه: عبد الله بن محمد بن حمدون، (أبوه وقد رأى مسلما صاحب "الصحيح”) وأبوحاتم محمد بن حبان البُستي، صاحب "الصحيح”، ومحمد بن يعقوب الأصم، ومحمد بن علي الـمُذَكِّر، وأبو الحسن الدارقطني الإمام المشهور، وسواهم خلق كثير.[ينظر:السير للذهبي 17/173].
المطلب الخامس: تلاميذه: تخرّج عليه عدد كبير من التلاميذ، من أشهرهم: الدارقطني – وهو من شيوخه -، وأبو ذر الهروي، وأبو يعلى الخليلي، وأبو بكر البيهقي، وأبو بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي، وخلق سواهم. [ينظر:السير للذهبي 17/173].
المطلب السادس: عقيدته: كان رحمه الله على عقيدة أهل السنة والجماعة على تشيع يسيرٍ فيه، وقد رُمي بالرفض، والغلو في التشيع؛ فقال ابن طاهر: سألت أبا إسماعيل الأنصاري الهروي عن الحاكم فقال: «ثقة في الحديث، رافضي خبيث»[ينظر: السير للذهبي17/174]. وقال ابن طاهر:«كان الحاكم شديد التعصب للشيعة في الباطن، وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة، وكان منحرفًا غاليًا عن معاوية وأهل بيته، يتظاهر به ولا يعتذر منه».[ينظر: المصدر السابق]. وفي "العلل المتناهية” لابن الجوزي (1/236): قال ابن طاهر: «كان يُتَّهم بالتعصُّب للرافضة».
وقد أنكر أهل العلم قول ابن طاهر وشيخه، فقال ابن عبد الهادي في "طبقاته” (3/242):«الحاكم ليس برافضي، هو معظِّمٌ للشيخين»، وقال الذهبي في "التذكرة” (3/608): «هو شيعيٌّ لا رافضيٌّ»، وقال في "السير” (17/174): «كلا ليس هو رافضيًا»، وقال في "الميزان” (3/608): «الله يحبُّ الإنصاف، ما الرجل رافضيّ»، وقال السبكي في "طبقاته” (4/163):«وقد استخرت الله كثيرًا، واستهديته التوفيق، وقطعت القول بأنّ كلام أبي إسماعيل، وابن طاهر لا يجوز قبوله في حق هذا الإِمام، لما بينهم من مخالفة العقيدة، وما يُرْمَيان به من التجسيم أشهر مما يُرْمى به الحاكم من الرفض»، وقال العلامة المعلمي في "التنكيل” (1/455): «وأما قول بعضهم: "إمام في الحديث، رافضي خبيث”، فقد أجاب عنها الذهبيّ في "الميزان” قال: إن الله يحب الإنصاف، ما الرجل برافضيّ، بل شيعيّ فقط».
ومن أهم الأسباب التي دعَتْ بعض العلماء إلى وصف الحاكم بالغلو في التشيع أو الرفض، مايلي: الأول: عدم ذكره لبعض خصوم علي من الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- في كتاب "مناقب الصحابة” من كتاب المستدرك، كمعاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. والثاني: إخراجه لبعض الأحاديث التي فيها نصرة للشيعة، وتساهله في تصحيحها مثل "حديث الطير” ، وحديث : "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها” وحديث : "النظر إلى علي عبادة” وغير ذلك من الأحاديث.
ويمكن مناقشة هذه الأسباب بما يلي:
أما موقفه من خصوم علي من الصحابة -رَضي الله عنهم؛ فليس على إطلاقه، وإنما هذا مختص بمعاوية رَضي الله عنه، وإلا فإنّه قد أفرد لطلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- أبوابًا في "كتاب الفضائل” وذكرعدَّة أحاديث تدل على فضلهم، ولم ينتقصهم بحرف، فدلَّ هذا على أنّ الرجل متبع للأثر، ولعَلّه لم يحضرْه شيءٌ من الأحاديث التي يرى أنها تصحّ في فضل معاوية رَضي الله عنه، وإلا فإن طلحة والزبير ممن قاتلا عليًّا كما قاتله معاوية- رضي الله عنْهم أجمعين-، وهذا مثل ما حصل للنسائيّ، فإن له موقفاً شبيهاً بموقف أبي عبد الله الحاكم، فحينما سُئل : لماذا لا يخرِّج في فضائل معاوية كما خرَّج في فضائل علي وسائر الصحابة، قال : "وأي شيء أخرج في فضائل معاوية حديث: "لا أشبع الله بطنه” ؟ كأنّه قال : لم يصح عندي من الحديث إلا هذا الحديث، وهو ليس في فضائله ومناقبه (عنده). و قد عقد الحاكم في كتابه "الأربعين” بابًا لتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان، واختصَّهم من بين الصحابة، وقدَّم في "المستدرك” ذكر عثمان على علي -رضي الله عنهما-.
وأما بالنسبة للأحاديث التي تساهل في تصحيحها في فضائل علي رضي الله عنه كحديث الطير وغيره؛ فلا يمكن أن يوصف الحاكم من خلالها بأنّه رافضي؛ لأنّه كما تساهل في تصحيح هذه الأحاديث، فإنّه في المقابل تساهل في تصحيح أحاديث موضوعة في فضل أبي بكر وعمر وعثمان -رضوان الله عليهم أجمعين -، فهذه مثلها؛ بل هو متساهل في تصحيح بعض الأحاديث الموضوعة في سائر الكتاب.[ينظر: مناهج المحدثين (ص/138) ومقدمة المحقق الشيخ علوش لكتاب "المستدرك”1/63، ومقدمة "الروض الباسم في تراجم شيوخ الحاكم” ص/110].
المطلب السابع: حاله من حيث الجرح والتعديل: يتناول هذا المطلب من جهتين:الأولى: حاله عند العلماء: كان الإمام الحاكم رحمه الله من كبار أئِمّة الحديث، وقد أثنى عليه العلماء ثناءً جميلاً، وشهدوا له بالعلم والفضل، فقال السلمي:«سألت الدارقطني: أيهما أحفظ ابن مندة أو ابن البيع؟ فقال: ابن البيع أتقن حفظًا».[طبقات الحفاظ للسيوطي ص/411].
وقال أبو يعلى الخليلي (ت 446 هـ).في "الإرشاد” (3/851): «الحاكم أبو عبد الله عالم عارف واسع العلم، ذو تصانيف كثيرة، لم أر أوْفى منه».
وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) في "الخلافيات” (1/497): «إمام أهل الحديث في عصره -رحمه الله-».
وقال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ)في "تاريخه” (5/473):«كان من أهل الفضل والعلم والمعرفة والحفظ، ..، وكان ثقة». وقال الذهبي في "السير”(17/163): «الإِمام الحافظ، الناقد العلامة، شيخ المحدثين، صنَّف وخرَّج، وجرَّح وعدَّل وعلَّل، وكان من بحور العلم، على تشيع قليل فيه».
الثانية: كلامه في غيره و تصنيفه بين أئمة الجرح والتعديل: كان رحمه الله ممن تكلم في الرواة جرحاً وتعديلاً، واعتُبِر قوله في ذلك لسعة علمه ومعرفته بالعلل والصحيح والسقيم؛ ولكنه في ذلك يُعدُّ من المتساهلين.[ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي(9/90) وضوابط الجرح والتعديل للشيخ عبد العزيز اللطيف(2/50)].
المطلب الثامن: مؤلفاته:
كان الإِمام الحاكم -رحمه الله تعالي- مكثرًا من التصنيف والتأليف، فذكر بعضهم أن تصانيفه بلغت ألف وخمسمائة جزء، ومن أشهر مؤلفاته المطبوعة: "المستدرك على الصحيحين”( وسيأتي التفصيل عنه في المبحث الثاني) و”معرفة علوم الحديث”، و”المدخل إلى الصحيح” و”المدخل إلى معرفة الإكليل”.
المطلب التاسع: وفاته: توفي رحمه الله تعالي بنيسابور في يوم الثلاثاء الثالث من شهر صفر سنة خمس وأربعمائة (405هـ)، وروى أبو موسى المديني: أنه دخل الحمام واغتسل وخرج فقال: آه، وقُبض روحه، وهو مُتّزِرٌ لم يلبس قميصه بَعْدُ، وصلّى عليه القاضي أبو بكر الحيري.[ ينظر: طبقات علماء الحديث (3/243)].
المبحث الثاني: في التعريف بكتابه” المستدرك على الصحيحين” وفيه تسعة مطالب أيضًا.
المطلب الأول: اسم الكتاب وتوثيق نسبته إلى المؤلف:
أوّلًا: اسم الكتاب: الكتاب معروف بـ”المستدرك على الصحيحين”، وأُخذت هذه التسمية من كلام الحاكم نفسه؛ إذ قال عقب حديث «لَنْ يَزْدَادَ الزَّمَانُ إِلَّا شِدَّةً..»: "فذكرت ما انتهى إلي من علة هذا الحديث تعجبًا لا محتجًّا به في "المستدرك على الشيخين” رضي الله عنهما، فإن أولى من هذا الحديث ذكره في هذا الموضع”.[المستدرك:8/197، طبعة دار التأصيل].
ثانيا: توثيق نسبته إلى المؤلف: تتأكَّد نسبة الكتاب إلى مؤلفه بأمور، منها: ذِكْر المؤلف بنفسه له كما تقدّم، وكذا كلُّ من ترجم للحاكم رحمه الله نسب هذا الكتاب إليه عند ذكره، ولم أقف على أحد نفى نسبته إليه، بل صار أمرا مستفيضًا بين أهل العلم.
المطلب الثاني: موضوع الكتاب: ذكر الحاكم رحمه الله في هذا الكتاب الأحاديث التي يرى أنها صحيحة على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما، ولم يُخرِّجاها في كتابيهما، وأحاديث أخرى يرى أنها مستوفية للشروط العامة للصحة من اتصال السند وثقة الرواة وعدم الشذوذ وعدم العلة، وربما أورد في كتابه بعض الأحاديث التي لا يرى أنها صحيحة، ولكنه أوردها لبعض الاعتبارات. [ينظر: الحاكم ومستدركه (ص/ 16)].
المطلب الثالث:سبب تأليفه:
ذكر المؤلف في مقدمة "المستدرك” السبب الدافع له على تأليفه لهذا الكتاب، ويمكن أن نجمل ذلك فيما يلي :
أ- أن البخاري ومسلماً صنفا في الصحيح كتابين مهذبين، ولكنهما لم يحكما ولا أحد منهما بأنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجاه، فكأنه يقول : يمكن لي أن أؤلف كتاباً في الصحيح زائداً على ما في الصحيحين؛ لأن البخاري ومسلماً لم يدعيا حصر الحديث الصحيح فيما أخرجاه.
ب-أنه ظهر في عصره جماعة من المبتدعة يشمتون برواة الآثار ويدَّعون أن جميع ما يصح من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث التي هي مجموع أحاديث الصحيحين تقريباً، فألح عليه أهل العلم في عصره للرد على هؤلاء المتبدعة؛ لأنهم يرون للحاكم مكانة عظيمة في نفوسهم.
ج- أنّ جماعة من أعيان أهل العلم بنيسابور سألوه أن يجمع كتاباً يشتمل على أحاديث مروية بأسانيد يحتج البخاري ومسلم بمثلها.
فهذه الأسباب الثلاثة بمجموعها هي التي دفعت الحاكم – رحمه الله – إلى تأليف كتابه "المستدرك”.[ مستفاد من كتاب "الحاكم ومستدركه” (ص: 16)].
المطلب الرابع:مصادره:
مصادر المؤلف في هذا الكتاب على نوعين:
الأول: الأحاديث التي تلقاها عن شيوخه والتي لا توجد أسانيدها في غيره من الكتب المصنفة.
الثاني: المصادر التي أُلِّفت ومازال بعضها موجودًا، وبعضها في عداد المفقود، منها: مسند الإمام أحمد، ومسند الحارث بن أبي أسامة، ومسند إسماعيل بن إسحاق القاضي، ومسند عثمان بن سعيد الدارمي، ومسند مسدد، ومسند الحميدي، وموطأ عبد الله بن وهب، ومسند الشافعي، ومصنف عبد الرزاق، وصحيح ابن خزيمة.
المطلب الخامس: أهمية الكتاب ومنزلته:
تكمن منزلة الكتاب في نقاط كثيرة، من أهمها: أ- مكانة المؤلف رحمه الله.ب- كونه من كتب الصحاح التي من أهم دواوين السنة.(مع مراعاة التساهل الذي وقع فيه، وسيأتي التفصيل عنه).
المطلب السادس: درجة أحاديثه: فيه الصحيح والحسن والضعيف والموضوع.
قال الذهبي في "السير”(17/175): «قال أبو سعد الماليني : "طالعت كتاب المستدرك على الشيخين الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره فلم أر فيه حديثا على شرطهما”. قلتُ (أي الذهبي): هذه مكابرة وغلو، وليست رتبة أبي سعد أن يحكم بهذا، بل في (المستدرك) شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب بل أقل، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة، وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المائة يشهد القلب ببطلانها».
قال ابن حجر-معلِّقًا على كلام الذهبي-: «وهو كلام مجمل يحتاج إلى إيضاح وتبيين.
ومن الإيضاح أنه ليس جميعه كما قال، فنقول:
أ- ينقسم المستدرك أقساما كل قسم منها يمكن تقسيمه:
الأول: أن يكون إسناد الحديث الذي يخرجه محتجا برواته في الصحيحين أو أحدهما على صورة الاجتماع سالماً من العلل، فهذا القسم -مع مراعاة شرط الاجتماع والسلامة من العلل- يوصف بكونه على شرطهما أو على شرط أحدهما.
ولا يوجد في المستدرك حديث بهذه الشروط لم يخرجا له نظيرًا أو أصلا إلا القليل، نعم وفيه جملة مستكثرة بهذه الشروط، لكنها مما أخرجها الشيخان أو أحدهما، واستدركها الحاكم واهمًا في ذلك ظنًّا أنهما لم يخرجاها.
القسم الثاني: أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته لا على سبيل الاحتجاج بل في الشواهد والمتابعات والتعاليق أو مقرونا بغيره، ويلحق بذلك ما إذا أخرجا لرجل وتجنبا ما تفرد به أو ما خالف فيه، كما أخرج مسلم من نسخة العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عنأبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – ما لم يتفرد به.
والحاكم يُخرِّج أحاديث هؤلاء في "المستدرك” زاعمًا أنها على شرطهما؛ ولا شك في نزول أحاديثه عن درجة الصحيح بل ربما كان فيها الشاذ والضعيف، لكن أكثرها لا ينزل عن درجة الحسن، والحاكم وإن كان ممن لا يفرق بين الصحيح والحسن بل يجعل الجميع صحيحا تبعا لمشايخه، فإنما يناقش في دعواه أن الحديث هؤلاء على شرط الشيخين أو أحدهما. وهذا القسم هو عمدة الكتاب.
القسم الثالث: أن يكون الإسناد لم يخرجا له لا في الاحتجاج ولا في المتابعات، وهذا قد أكثر منه الحاكم، فيخرج أحاديث عن خلق ليسوا في الكتابين ويصححها، لكن لا يدعي أنها على شرط واحد منهما، وربما ادعى ذلك على سبيل الوهم، وكثير منها يعلق القول بصحتها على سلامتها من بعض رواتها،كالحديث الذي أخرجه من طريق الليث عن إسحاق بن بزرج، عن الحسن بن علي، في التزيين للعيد. قال في أثره: "لولا جهالة إسحاق لحكمت بصحته” وكثير منها لا يتعرض للكلام عليه أصلا، ومن هنا دخلت الآفة كثيرا فيما صححه، وقل أن تجد في هذا القسم حديثا يلتحق بدرجة الصحيح فضلًا عن أن يرتفع إلى درجة الشيخين – والله أعلم -».[ بتصرف من "النكت على كتاب ابن الصلاح” لابن حجر 1/318].
المطلب السابع: شرط مؤلفه فيه:
قال رحمه الله في مقدمة "المستدرك”(1/3): «وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما أو أحدهما، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة، والله المعين على ما قصدته، وهو حسبي ونعم الوكيل».
وقد اختلف العلماء في مراد الحاكم بقوله:(مثلها):
فمنهم من قال: إن المقصود بمراده بالمثلية: هو نفس الرواة الذين أخرج لهم الشيخان أو أحدهما، ويعبر عن ذلك بأنه أراد المثلية الحرفية، وفيهم النووي، وابن الصلاح، وابن دقيق العيد، والذهبي، وابن حجر. وهو الراجح كما سيأتي.
ومنهم من قال : "بل المراد بالمثلية: المثلية المجازية، ويعنون بها أن المقصود وصف الرواة الذين احتج بهم الشيخان أو أحدهما ، وهذا يعني: أن الحاكم يخرج لرواة لم يرو لهم الشيخان أو أحدهما، ولكنهم موصوفون بتوثيق يماثل في درجته درجة من أخرج لهم الشيخان. وبه قال العراقي.
قال العراقي رداً على ابن الصلاح وابن دقيق العيد والذهبي في قولهم السابق: "وليس ذلك منهم بجيد؛ فإن الحاكم صرح في خطبة المستدرك بخلاف ما فهموه عنه، فقال : "وأنا أستعين الله تعالى على إخراجي أحاديث رواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما”. فقوله : "بمثلها” أي بمثل رواتها لا بهم أنفسهم، ويحتمل: أن يراد بمثل تلك الأحاديث، وإنما تكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها، وفيه نظر”.
فيلاحظ أن العراقي يرجح أن مراد الحاكم أوصاف رواة الشيخين أو أحدهما لا نفس الرواة، وعلى رأي العراقي يكون الحاكم قد أصاب في جملة كبيرة من الأحاديث ما دام الراوي ليس مضعفاً ولا متكلماً فيه، بل هو ثقة، فلا يضر حتى لو لم يخرج له الشيخان، ويعتبر هذا الحديث على شرط الشيخين؛ ولكنه رأي مرجوح.[ينظر: الحاكم ومستدركه (ص: 17) بتصرف].
وقد عارض الحافظ ابن حجر شيخه العراقي في هذا، وقرَّر أن الحاكم في تصرفه في "المستدرك” يريد نفس الرواة. فقال: «لكن تصرف الحاكم يقوي أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما شيخنا – رحمه الله تعالى- فإنه إذا كان عنده الحديث قد أخرجا أو أحدهما لرواته قال: "صحيح على شرط الشيخين أو أحدهما وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال: صحيح الإسناد حسب” ويوضح ذلك قوله في باب التوبة لما أورد حديث أبي عثمان، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعا: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي”. قال: هذا حديث صحيح الإسناد ” وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي ولو كان هو النهدي لحكم5 بالحديث على شرط الشيخين”. وإن كان الحاكم قد يغفل عن هذا في بعض الأحيان، فيصحح على شرطهما بعض ما لم يخرجا لبعض رواته، فيحمل ذلك على السهو والنسيان ويتوجه به حينئذ عليه الاعتراض. والله أعلم. [ينظر النكت على كتاب ابن الصلاح1/320: الحاكم ومستدركه (ص/20)].
المطلب الثامن: ترتيبه للكتاب:
يذكر الحاكم رحمه الله الأحاديث مرتبة على ترتيب الجوامع فيذكر أحاديث الأحكام وغير الأحكام على نفس الترتيب الفقهي المعروف عموماً، متبعا في ذلك طريقة البخارى على وجه العموم، ولكنه لا يُبوّب، وإنما يذكر الكتاب ثم يسرد الأحاديث ولا يظهر ترتيب معين في ذكر الأحاديث داخل الأبواب.
المطلب التاسع: عناية العلماء بالكتاب:
قد اعتنى أهل العلم بهذا الكتاب عناية فائقة؛ فمنهم من لخّصه، ومنهم من ترجم لرجاله، ومنهم من خدمه بأمر آخر، ومما وقفت عليه في هذا الباب:
أ- تلخيص المستدرك للذهبي. ب-جمع الذهبي منه جزءا من الموضوعات يقارب مئة حديث.ج-النكت اللطاف في بيان الأحاديث الضعاف المخرجة في بيان الأحاديث الضعاف المخرجة لابن الملقن. د-ضمَّنه الحافظ ابن حجر أطرافه في كتابه” إتحاف المهرة”.ه- رجال الحاكم في”المستدرك” للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
المطلب العاشر: طبعات الكتاب: للكتاب عدة طبعات، منها:
أ- طبعة دائرة المعارف العثمانية بالهند سنة 1334 هـ، وبذيله "تلخيص الذهبي”، ثم صورت هذه الطبعة بعد ذلك عدة مرات في دور مختلفة.
ب- طبعة الشيخ أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي، نشرته دار الحرمين بالقاهرة سنة 1417 هـ -1997 م.
ج- طبعة دار الميمان للنّشر والتّوزيع، الرياض- القاهرة، الطَّبعة الأولى سنة (1435هـ، 2014م)، بتحقيق: الفريق العلمي لموسوعة جامع السُّنة النَّبوية، وبإِشْراف: سُليمان بن عبد الله الميمان، وأيمن بن عبد الرحمن الحنيحن في اثني عشر مجلدًا.
د- طبعة دار التأصيل، القاهرة – بيروت، الطبعة الأولى سنة (1435هـ، 2014م) بتحقيق: مركز البحوث وتقنية المعلومات دار التَّأصيل، في ثماني مجلدات.
هذا، والحمد لله أولا وآخرًا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه آجمعين.