السياق في اللغة:
أصل لفظة "سياق” هو: سواق، فقلبت الواو ياءً لكسرة السين، وهما مصدران من ساق يسوق. قاله ابن الأثير رحمه الله (النهاية في غريب الحديث والأثر (2/424))
قال ابن فارس −رحمه الله− : "السين والواو والقاف أصل واحد، وهو: حدود الشيء، يقال: ساقه يسوقه سوقاً، والسَّيِّقة: ما استيق من الدواب، ويقال: سقت إلى امرأتي صداقها، وَأسَقتُه. والسُّوق مشتقة من هذا؛ لما يساق إليها من كل شيء، والجمع أسواق، والساق للإنسان وغيره، والجمع سوق، وإنما سميت بذلك لأن الإنسان ينساق عليها …” (معجم مقاييس اللغة (3/117).
وقال الجوهري−رحمه الله− :”يقال: ولدت فلانة ثلاثة بنين على ساق واحد: أي بعضهم على إثر بعض، ليس بينهم جارية، والسياق نزع الروح، يقال: رأيت فلاناً يسوق: أي ينزع عند الموت” (الصحاح (4/1499-1500). وسمي النزع سوقاً؛ لأن الروح كأنها تساق لتخرج من البدن. قاله ابن الأثير−رحمه الله− (النهاية في غريب الحديث والأثر (2/424).
وقال الزمخشري−رحمه الله− : "ومن المجاز: هو يسوق الحديث أحسن سياق، وإليك يُساق الحديث، وهذا الكلام مساقه إلى كذا، وجئتك بالحديث على سوقه: على سرده”. (أساس البلاغة ص ٣١٤)
وفي المعجم الوسيط: "ساق الله خيرا ونحوه: بعثه وأرسله. وساقت الريح التراب والسحاب رفعته وطيرته. وساق الحديث: سرده وسلسله… وسياق الكلام: تتابعه وأسلوبه الذي يجري عليه” (المعجم الوسيط (ص482)
يتبين مما سبق أن للسياق عدة معان منها: نزع الروح، والمهر، وأسلوب الكلام، والبعث والإرسال والتتابع، ويعنينا من هذه المعاني الكثيرة معنى واحداً وهو أسلوب الكلام.
السياق في الاصطلاح:
اختلف الباحثون في تعريف السياق اصطلاحا، بحيث أن السياق محصور على المقال دون الحال أو مشمول كليهما، أي: تشمل على المقال، وتشمل أيضا على الحال "المقام”.
يرى بعض الباحثين أن دلالة السياق القرآني مقصورة على المقال دون الحال، وهو ما يسميه أهل اللغة ب "السياق اللغوي”.
فيعرِّف الشيخ/ عبد الحكيم القاسم –وفقه الله− السياق بأنه: "تتابع الكلام وتساوقه وتقاوده”.
ويعرف دلالة السياق بأنها: "فهم النص بمراعاة ما قبله وما بعده”.
ويعرف دلالة السياق في التفسير: "بأنها بيان اللفظ أو الجملة في الآية بما لا يخرجها عن السابق واللاحق إلا بدليل صحيح يجب التسليم له” (دلالة السياق القرآني وأثرها في التفسير. دراسة نظرية تطبيقية من خلال تفسير ابن جرير. ص ٦٢، وهي رسالة ماجستير غير مطبوعة مقدمة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض)
ويعرف الباحث/ د. المثنى عبد الفتاح محمود السياق القرآني بأنه: "تتابع المعاني وانتظامها في سلك الألفاظ القرآنية، لتبلغ غايتها الموضوعية في بيان المعنى المقصود، دون انقطاع أو انفصال” (نظرية السياق، ص 15.)
بينما يرى بعض الباحثين أن دلالة السياق القرآني تشمل المقال المتمثل بالسباق واللحاق وتشمل الحال (المقام)
فتكون دلالة السياق تنقسم إلى قسمين:
(١) سياق المقال: وَيعنُونَ به السِّباق واللِّحاق.
(٢) سياق الحال "المقام”: وَيعنُوَن به ما يصاحب النص من أحوال وعوامل خارجية لها أثر في فهمه؛ كحال المتكلم، والمخاطب، والغرض الذي سيق له… إلخ (السياق القرآني وأثره في التفسير، دراسة نظرية وتطبيقية من خلال تفسير ابن كثير، رسالة ماجستير غير مطبوعة مقدمة: لجامعة أم القرى بمكة المكرمة) ويُعَرِّف الباحث/ فهد بن شتوي الشتوي –رحمه الله− السياق بأنه: "الغرض الذي تتابع الكلام لأجله مدلولاً عليه بلفظ المتكلم، أو حاله، أو أحوال الكلام، أو المتكلم فيه، أو السامع” (دلالة السياق وأثرها في توجيه المتشابه اللفظي في قصة موسى −عليه السلام− دراسة نظرية تطبيقية ص ٢٧. وهي رسالة ماجستير غير مطبوعة مقدمة لجامعة أم القرى.)
وعرفه الباحث/ د. محمد الربيعة−وفقه الله−بأنه: "الغرض الذي ينتظم به جميع ما يرتبط بالنص من القرائن اللفظية والحالية” (أثر السياق القرآني في التفسير، دراسة نظرية تطبيقية على سورتي الفاتحة والبقرة ص ١٩. وهي رسالة دكتوراه غير مطبوعة مقدمة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض)
فمن خلال ما سبق نجد أن الفريقين اختلفوا على وجه التحديد في دخول الحال "المقام” أو ما يسمى في علم أصول الفقه بقرائن الأحوال تحت مسمى دلالة السياق، واعتباره قسيماً للمقال، رغم أنه لا أحد ينكر أن المقال لا يفهم إلا في ضوء الحال.
وعرف بعضهم (ولعل هذا التعريف شامل للحال المقالي الوارد بالآية أو المقام الذي يحيط بها) بأنه: "ما يحيط بالنص من عوامل داخلية أو خارجية لها أثر في فهمه، من سابق أو لاحق، أو حال المخاطب أو المخاطب، والغرض الذي سيق لأجله، والجو الذي نزل فيه. (ينظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، سعيد الشهراني (ص: 22)، رسالة دكتوراه، جامعة أم القرى)
أهمية السياق في فهم المعنى وتعيين المراد:
إن معرفة "السياق” ركن أساسي في فهم الكلام، وبيان المراد المتكلم منه، ولا سيما في نصوص الكتاب والسنة التي هي مرجع الشريعة، ومناط الأحكام. فالسياق هو الميزان الذي ينضبط به التوافق بين النص الشرعي ومراده، والترجيح بين الأقوال المختلفة، ومنع الأوجه البعيدة.
وقد اهتم بهذا السلف فكانوا لا يجيزون التفسير قبل النظر في سياق الكلام، قال مسلم بن يسار: "إذا حدثت عن الله حديثاً فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده”.(تفسير ابن كثير (1/6)
وقال الزركشي: "أما دلالة السياق فإنها ترشد الى تبيين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظراته، وانظر الى قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّك أَنْتَ الْعَزِيز الْكَرِيم} (الدخان:49)، كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير” (البرهان (2/200)
وجعل الشاطبي مراعاة السياق مظهرا من مظاهر الاعتدال في التفسير المفضي الى الفهم السليم، حين قال: ” فلا محيص للمتفهم عن آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه، فلا يتوصل به الى مراده، ولا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض”. (الموافقات (4/266)
وقال الشيخ ولي الله الدهلوي -رحمه الله- : "ولا بد للمفسر العادل أن ينظر الى شرح الغريب نظرتين، ويزنه وزنا علميا مرتين:
مرة في استعمالات العرب حتى يعرف أي وجه من وجوهها أقوى وأرجح. ومرة ثانية في مناسبة السابق اللاحق بعد إحكام مقدمات هذا العلم، وتتبع موارد الاستعمال، والفحص عن الآثار، حتى يعلم أي صورة من صورها أولى وأنسب. (الفوز الكبير في أصول التفسير، (ص 111)
أنواع السياق في القرآن:
والسياق القرآني له أنواع، وقد حرر هذ ا التنوع في السياق القرآني صاحب كتاب "دلالة السياق منهج مأمون لتفسير القرآن الكريم” فقال: "السياق قد يضاف الى مجموعة من الآيات التي تدور حول غرض أساسي واحد، كما أنه قد يقتصر على آية واحدة، ويضاف اليها، وقد يكون له امتداد في السورة كلها، بعد أن يمتد الى ما يسبقه ويلحقه، وقد يطلق على القرآن بأجمعه، ويضاف اليه، بمعنى أن هناك: سياق آية، وسياق النص، وسياق السورة، والسياق القرآني فهذه دوائر متداخلة متكافلة حول إيضاح المعنى”. ("دلالة السياق منهج مأمون لتفسير القرآن” لعبد الوهاب رشيد صالح أبو صفية، (ص 88)
سوف أتكلم هنا عن السياقات الخمس في القرآن، وهي كالآتي:
الأول: السياق القرآني العام.
الثاني: السياق الزمني للآيات.
الثالث: سياق السورة أو المقطع.
الرابع: السياق الموضوعي الخاص (التفسير الموضوعي).
الخامس: السياق المحيط بالآية.
الأول: السياق القرآني العام: تتابع المعاني وانتظامها في سلك الألفاظ القرآنية لتبلغ غايتها الموضوعية في بيان المعنى المقصود دون انقطاع أو انفصال ((السياق القرآني وأثره في التفسير دراسة نظرية وتطبيقية من خلال تفسير بن كثير/ رسالة ماجستير))
والمراد بالسياق القرآني، مقاصد القرآن الأساسية، والمعاني الكلية، التي تسمى بالكليات في القرآن والأساليب المطردة في القرآن التي تسمى بعادة القرآن.
وعلى هذا فيمكن تقسيم هذا النوع الى وجوه ثلاثة (مقاصد القرآن، المعاني الكلية، الأساليب المطردة).
ويرى الطاهر بن عاشور -رحمه الله- أن غرض المفسر هو "بيان ما يصل اليه، أو ما يقصد من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان ما يحتمله المعني، ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا…فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله” (مقدمة التحرير والتنوير، 1/39)
وقد توصل الطاهر بن عاشور -رحمه الله- باستقرائه إلى أن المقاصد الأساسية التي جاء القرآن الكريم لبيانها ثمانية:
الأول: إصلاح العقائد.
الثاني: تهذيب الأخلاق.
الثالث: التشريع.
الرابع: سياسة الأمة وصلاحها وحفظ نظامها.
الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم.
السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم لتلقي الشريعة.
السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير.
الثامن: الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. ( ينظر: مقدمة التحرير والتنوير، (1/37-39))
ومن الكتب المؤلفة في هذا اللون:
• "البرهان في علوم القرآن” لبدرالدين الزركشي.
• "الاتقان في علوم القرآن” لجلال الدين السيوطي، ت911ه.
• "تفسير التحرير والتنوير” لمحمد الطاهر بن عاشور.
الثاني: السياق الزمني للآيات أو سياق التنزيل، يعني سياق الآية بين الآيات بحسب ترتيب النزول. ككتب المكي والمدني والتفاسير عموما.
معرفة مناسبات النزول أمر مهم في فهم الآيات القرآنية، وذلك لأنها تمثل الأحداث التي تحيط بالنص القرآني، ومعرفتنا بهذه الأحداث تساعدنا على إدراك المعنى المراد من النص الكريم، يقول الإمام الزركشي: "قد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة، وتوضع كل واحدة منها مع ما يناسبها من الآي رعاية لنظم القرآن وحسن السياق، فذلك الذي وضعت معه الآية نازلة على سبب خاص للمناسبة، إذ كان مسوقا لما نزل في معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام، أو كان من جملة الأفراد الداخلة وضعا تحت اللفظ العام”. (البرهان في علوم القرآن، للزركشي (1/25))
ومن الكتب المؤلفة في هذا اللون:
• "كتاب المكي والمدني في القرآن” لعبد العزيز بن أحمد الديريني، ت694ه.
• "لباب النفول في أسباب النزول” لجلال الدين السيوطي، ت911ه.
• "الاستيعاب في بيان الأسباب” سليم الهلالي ومحمد موسى آل نصر.
الثالث: سياق السورة المراد تفسيرها أو جزء منها، كل سورة منها وحدة متكاملة، متناسقة يجمعها غرض واحد، يسمى وحدة السورة أو سياقها.
ووحدة السورة أو سياقها العام هو الذي يطلع القارئ على مضمون السورة كلها، ولو تدبر القارئ وتفحص وتبصر في سورة واحدة لرأى قرآنا عجبا، وذلك بما سيتجلى له من ترابط السورة وقوة بنائها وانتظامها في خيط واحد، وكيف لا يكون ذلك وهو كلام رب العالمين الذي أتقن كل شيء. (السياق القرآني (أهميته، أنواعه، ضوابطه) / هارون الرشيد، الأستاذ المساعد، كلية الدراسات الاسلامية، قسم التفسير وعلوم القرآن الجامعة الاسلامية – إسلام آباد)
قال البقاعي: "لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة” (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور” برهان الدين البقاعي،1/11.)
ومن الكتب المؤلفة في هذا اللون:
• "في ظلال القرآن” لسيد قطب، ت1966م.
• "تناسق الدرر في تناسب السور” لجلال الدين السيوطي، ت911ه.
• "مرصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع” لجلال الدين السيوطي، ت911ه.
الرابع: السياق الموضوعي الخاص (التفسير الموضوعي)، ومعناه دراسة الآية أو الآيات التي يجمعها موضوع واحد، سواء أكان الموضوع عاما كالقصص القرآني أو الأمثال أو الحكم الفقهية أم كان خاصا كالقصة المخصوصة بنبي من الأنبياء أو حكم من الأحكام أو غير ذلك.
وجاء في كتاب "مقدمة في التفسير الموضوعي” للدكتور عبد الحي الفرماوي: اسم التفسير الموضوعي: اصطلاح مستحدث أطلقه العلماء المعاصرون على:
جمع الآيات القرآنية ذات الهدف الواحد، التي اشتركت في موضوع ما، وترتيبها حسب النزول ما أمكن ذلك، مع الوقوف على أسباب نزولها، ثم تناولها بالشرح والبيان والتعليق والاستنباط، وإفرادها بالدرس النهجي الموضوعي، الذي يجليها من جميع نواحيها وجهاتها، ووزنها بميزان العلم الصحيح. (مقدمة التفسير الموضوعي لعبد الحي الفرماوي، ط4، 1410ه، ص52)
وقال د. مصطفى مسلم: "علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية، من خلال سورة أو أكثر.” (مباحث في التفسير الموضوعي، لمصطفى مسلم)
ومن الكتب المؤلفة في هذا اللون:
• "الوحدة الموضوعية في سورة يوسف” للحسن باجودة.
• "القصة في القرآن الكريم” لمحمد سيد طنطاوي.
• "مقدمة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم” لعبد الحي الفرماوي.
الخامس: السياق المحيط بالآية، سياق الآية في موقعها بين السابق من الآيات واللاحق، أي مراعاة سياق الآية في موقعها من السورة، وسياق الجملة في موقعها من الآية، فيجب أن تربط الآية بالسياق الذي وردت فيه، ولا تقطع عما قبلها وما بعدها.
ومن الكتب المؤلفة في هذا اللون:
• "نظم الدرر في تناسب الآي والسور” للشيخ برهان الدين البقاعي، ت885ه.
• "علم المناسبات في السور والآيات” للدكتور محمد بن عمر بازمول.
• "الإعجاز البياني في ترتيب آيات القرآن” لمحمد أحمد القاسم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
Leave a Reply