{كتبت هذا المقال عندما قدمت دهلي بعد التخرج في الجامعة السلفية بنارس، ثم ضاع بين الأوراق، والآن حينما بدأ نقل الكتب إلى مكتب آخر من مكتب الجمعية؛ فوجدته ولله الحمد، ورأيت من المناسب أن ينشر دون أي تعديل. راشد حسن المباركفوري}
إن السنة النبوية تحتل مكانة عظيمة ومنزلة كبيرة؛ فإنه مصدر ثانٍ للشريعة الغراء، ولافرق بينها وبين القرآن الكريم في الحجية والتلقي والاستدلال، فمن تمسك بالقرآن وخلَّف السنة وراء ظهره فإنه لايُقبل أي عمل يصدر منه، فشريعتنا المباركة تدعو البشرية كافة إلى العمل والتمسك بالكتاب والسنة معًا بغير أن يفرق بينهما أي تفريق أو تقديم أو تأخير.
فلهذه الأهمية البالغة قيض الله جل وعلا علماء ربانيين والعباقرة الميامين من الأمة للحفاظ على السنة النبوية المشرفة، وإنهم أنفقوا حياتهم الغالية وأفنوا أعمارهم وتحمَّلوا مشاقَّ السفر وقطعوا الفيافي وواصلوا الليل بالنهار، ولم يعرفوا الملل والكلل في سبيل جمع الأحاديث وتدوينها والحفاظ عليها؛ فبفضل هذه المجهودات المضنية والمساعي المباركة وصلت إلينا السنة النبوية المطهرة نقية صافية لم يتطرق إليها الخلل ولم يأته الزلل.
ثم آن أن قام العلماء النحارير بخدمات جليلة واسعة بخصوص السنة النبوية المشرفة جمعـًا وتدوينـًا، تحقيقـًا وتأليفـًا، وعمـلًا وتمسكًا، شرحــًا وتوضيحــًا. اللهم تقبل جهودهم الجبارة المبذولة في سبيل الدين واحشـــرنا مع هؤلاء الأبرار يوم القرار.
إنَّ كتاب "مشكوة المصابيح” الذي نحن بصدد الحديث عنه، من المجموعة الحديثية التي اهتم بها العلماء كل الاهتمام، وناولوها بالشرح والاختصار والزيادة والتعليق. مؤلف الكتاب محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي من علماء القرن الثامن الهجري؛ إنه جمع فيه الأحاديث الواردة في كتب السنة مثل صحيح البخاري، وصحيح مسلم ، والمؤطا لمالك، والأم للشافعي، ومسند أحمد، والسنن الأربعة، وسنن الدارمي، وسنن الدار قطني، وسنن البيهقي، والتجريد للصحاح الستة.
وقد اعتمد في تأليفه على كتاب "مصابيح السنة للبغوي”، وذلك أنه وجد هذا الكتاب أجمع كتاب صُنِّف في بابه، وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها؛ فجاء الخطيب التبريزي وسرد الكتب والأبواب كما سردها صاحب المصابيح، ورتَّب الكتب على كتب الفقه، وقسَّم كل كتاب غالبــًا على ثلاثة فصول. [ينظر: مشكوة (1/3-8)].
ولاشك أن كتاب "المشكوة” بهذه الخصائص قد لقي قبولًا عظيمًا ورواجـًا كبيرًا في الأوساط العلمية ولا سيما في شبه القارة الهندية؛ فلا توجد مدرسة من المدراس الإسلامية في القارة الهندية الباكستانية إلا وهو داخلٌ ضمن مقرَّراتها الدراسية؛ لذلك اعتنى العلماء بشرحه وترجمته إلى لغاتهم المحلية عناية بالغة مع القيام بشرحه كمُلَّا علي القاري قديمــًا وتحقيقه كالعلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمهم الله ـ. فمن أهم شروح الكتاب: كتاب "مرعاة المفاتيح بشرح مشكاة المصابيح” لجدِّ والدنا محدث العرب والعجم العلامة الشيخ عبيد الله المباركفوري، ولكنه ـ مع الأسف ـ لم يتمّ، فهذا الكتاب جهدٌ رائعٌ ونموذجٌ مثاليٌ لفقه أهل الحديث، فإنه نهج فيه منهج السلف الصالح ونسج على منوالهم.
ومن بين الكتب وفقت على كتاب شيخنا الفاضل الشيخ عبد السلام المدني ـ حفظه الله ـ الأستاذ بالجامعة السلفية بنارس، وهو "التعليق المليح على مشكوة المصابيح”، هذا التعليق في الحقيقة يحمل في طياته فوائد كثيرة وخصائص عديدة، إنه هاشٌ مختصرٌ جميلٌ، وقد جمع المؤلف الفاضل فيه شرح المفردات، وبيان درجة الحديث، وذكر المسائل الفقهية، ومن ثم الراجح بينهما، وذلك في أسلوب سهل واضح، وإنه ـ حسب علمي وظني ـ يفيد المدرسين وطلبة العلم ـ إن شاء الله ـ، إننا استفدنا كثيرًا أيام الاختبار في الجامعة السلفية بنارس من كتابين لشيخنا: "التعليق المنتقى” و”التعليق المليح”؛ فوجدناهما من أخصر التعليقات المتدوالة في الأوساط العلمية ولاسيما لطلبة العلم.
إن المعلِّق على هذا الكتاب من كبار أهل العلم في القارة الهندية الذين رزقهم الله خبرة ومهارة في الفنون الحديثية؛ فإنه قضى من عمره أكثر من أربعين سنة، يدرس الأحاديث النبوية في الجامعة السلفية بنارس، يكشف الغطاء عن المسائل الدينية والأحكام الشرعية، وكان من فضل الله علي أنني درست عليه "الجامع الصحيح للبخاري” في الجامعة السلفية، وقد استفدت أنا وجميع الطلبة كثيرًا من أسلوب تدريسه حيث كان يأتي بالنوادر من شروح عديدة. أطال الله بقاءه مع الإيمان والصحة، ووفَّقَـنا لمزيد من الاستفادة من علمه وفضله.
أرى من المناسب ذكر بعض آراء أهل العلم عن هذا التعليق الجليل:
يقول الدكتور عبد العليم البستوي: "فقد تلقيت هديَّتكم الثمينة القيِّمة المتمثلة في نسخة م كتابكم…، ويتضمن تعليقات مختصرة منتخبة من المراجع العديدة لشرح الكلمات الغريبة على كل حديث مع ذكر أهم مايستنبط من ذلك الحديث من المسائل الفقهية ومذاهب الأئمة والفقهاء في تلك المسائل وذكر الراجح من تلك الأقوال.
ووجدت أن أسلوب الاختصار والوضوح والشمول الذي اخترتموه في هذه التعليقات مفيدٌ جدًا للمدرسين والطلبة الذين يدرسون هذا الكتاب. فجزاكم الله خير الجزاء وبارك في جهودكم وأعمالكم، ووفقكم للمزيد م مثل هذه الأعمال المفيدة الطيبة..”.
يقول الدكتور رضاء الله المباركفوري (شيخ الجامعة السلفية الأسبق، ونائب أمير جمعية أهل الحديث لعموم الهند ـ رحمه الله ـ ):
"….وبما أن شيخنا الفاضل ـ حفظه الله ـ قد أمضى مدةً تتجاوز عن ثلاثين سنة في تدريس الحديث مما أكسب له خبرةً فائقةً في مجال الحديث ومعرفة مايحتاج إليه الطالب من نكت وفوائدَ حديثية ومسائل وأحكام فقهية، قام في هذه المذكرة التي يصح أن تُمسى حاشية بجمع وترتيب الفوائد النادرة والمسائل الفقهية المبثوثة في بطون الشروح القيمة، وبهذا جاءت هذه الحاشية الجليلة حافلة بما يساعد طالب الحديث في تقوية معرفته بالحديث ونكته ومسائله..”
وكتب الشيخ أبو المكـرم بن عبد الجليل السلفي ـ رحمه الله ـ :
” ويطيب لي أن أكتب إليكم هذه السطور المتواضعة، وأفيدكم بأن كتابكم المسمى بالتعليق المنتقى على سنن المجتبى عرضت نسخة منه على فضيلة الشيخ الدكتور فضل إلهي ـ حفظه الله ـ، فاطلع على الكتاب وأثنى عليه…”.
فمن الضروري أن نوضح أن هذا التعليق المطبوع هو النصف الثاني من الكتاب الذي يبدأ من كتاب النكاح وينتهي إلى نهاية الكتاب. وهو في الحقيقة مختصر لكتاب "مرعاة المفاتيح” للشيخ عبيد الله المباركفوري رحمه الله.
وقد تيسر لي اللقاء مع شيخنا ـ وذلك يكون حينًا لآخر ـ في بيته بدهلي، وتبادلنا الآراء عن الكثير من المسائل والأحكام الشرعية، وذكر لي أثناء الحديث عن النصف الأول من الكتاب بأنه: سيكمل النصف الأول من التعليق في أقرب وقت ممكن إن ساعدني القدر وحالفني التوفيق ـ إن شاء الله ـ.
فنسأل الله العلي القدير أن يجزي شيخنا على هذه الخدمة الجليلة خير الجزاء ويتقبلها بقبول حسن وينفع بها العلماء والدارسين جميعًـا، والله ولي التوفيق.
Leave a Reply