قبل بضع سنوات، خلال دراستي في الجامعة السلفية ببنارس الهند، تفاجأت برجل جالس على الكرسي في رحابها، كثيف اللحية، سمير اللون، مستنير الوجه، متواضع الهيئة، لطيف الطبع، أنيس العلم والعرفان، مبتسم غير متصنع، جامع بين السكينة والوقار والهيبة، قد التف حوله الجمع الحاشد من طلبة العلم حتى كادوا يكونون عليه لِبدًا، فيسأله الواحد منهم والآخر يستمع إليه منصتا، بينما الباقون يبتدرون إليه ويقتتلون على الاقتراب والدنو منه فجعلت نفسي تأبى إلا أن يكون هذا الشيخ النبيه من الرجال الأفذاذ الذين قلما تحظى الأنظار برؤيتهم والتشرف باللقاء معهم. فلم ألبث أن أصبحت ذرة تائهة تنثر أمامه، تارة تطير خلفه حتى جعلت تطوف حوله متطلعا إليه فإذا بها "شمس” كانت قد بزغت في نهاية العقد السادس من القرن العشرين للميلادي، وطلعت من”ولاية بهار” في أرض الهند، فأشرقت بوجودها في أجواء المعرفة والدراية وأضواء العلم والعرفان إلى أن حان بكورها في ساحات مدرسة فيض عام في مدينة (مئو) ودار العلوم الأحمدية السلفية وغدت غدوتها في كيان الجامعة السلفية ببنارس الهند، كما أضحى ضحاها في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وتهجرت هاجرتها في جامعة أم القرى بمكة المكرمة -حرسهما الله- حتى بلغت ظهيرتها وانتشرت أشعتها وتطايرت إضاءاتها عند ما شاء الله أن يجعل مستقرها ومَربعها -حتى حين وفاته- أم القرى مكة المكرمة التي هي أفضل البقاع في هذا الكون الهائل، ورجحت لنفسها أن تحظى بجوار بيت الله الحرام، -فيا لها من حظوتها العظمى المغتبطة بها- فاتسعت دائرة الاستفادة من منهلها الزلال غاية الاستفادة، وانفجم نطاق الاستقاء من معينها الصافي أيما انفجام فبينما كانت تعيش ما بين رواحها وعصرها وقصرها وأصيلها وعشيها حتى فوجئ هذا الكون الروحي باختفاءها واضمحلالها حيث غربت تلك الشمس المضيئة مساء يوم السبت في العشرين من شهر ربيع الأول، عام (1444هـ).
إنا لله وإنا إليه راجعون
ألا إنه هو العالم الرباني، المحقق الشهير، الباحث النحرير، الشيخ العلامة محمد عزير شمس الذي أنا أقترف بالإساءة إليه على استخدامي هذه الألقاب الضخمة والنعوت الفخمة في حقه وأنا محق بهذا الصدد، على الرغم من أنه كان-رحمه الله- لا يرضى لنفسه استخدامها في حياته إذ كان يكتفي بكتابة”عزير شمس” فقط على غُلُف مؤلفاته وتحقيقاته كافة، لتعوده الطبيعي على كونه في قمة التواضع والاستكانة ووذروة في عدم الشعور بالاستعلاء وعدم الرضا بالشهرة والتربح إلا أنه كان متربعا على عرش القلوب وكان ممن رفعه الله علما وفضلا فصنيعه هذا يذكرني بحديث الرسول -صلوات ربي وسلامه عليه- أنه قال: "وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله…”(١)
حقاً لقد نشأ -رحمه الله- نشأة علمية عملية، فكرية ثقافية ممزوجة بالتوحيد الخالص الصرف والعقيده النقية الطاهرة والسنة المحضة غير المشوبة بالشرك والبدعات لما ترعرع في أحضان العلم والفضل وأيفع في جو صالح كأسرة علمية.
فكان -رحمه الله- عبقريا عصاميا، عديد المواهب، غزير المعارف، ذا خبرة طويلة، واسع الاطلاع، سريع الاستحضار، موصوفا بالرصانة والحصافة، متميزا بالنقد العلمي والرد البرهاني والاتزان المتآلف غير المشوب باللمز والغمز، مقدرا لإنجازات الآخرين مع النصح والقول بالاستفادة من إيجابياتها، مولَعا بإحياء التراث الإسلامي، عديم النظائر في العكوف على مطالعة الكتب وزيارة المكتبات حتى أتعب عينيه لإدامة النظر في الكتب وأرهق نفسه إلى أن أعرب عن غاية حياته لما سئل في حوار له، أن يخرج لأبناء الأمة الإسلامية، الغيورين، ويقرب أيديهم المملاقة، إلى تلك الكتب والمؤلفات التراثية ذات الفوائد الجمة والدرر السنية التي كان قد واراها ركام العصور والدهور وأخفاها عنا ركام الهجمات العدائية القائمة ضد الإسلام والمسلمين منذ زمن طويل.
فالإعراب عن شخصيته الفذة العملاقة ليس بالأمر الهين، والحديث عنه ذو شجون، على الرغم مما قد كتب في شأنه ما كتب وما سيكتب عنه من لا تزال ذكرياته العطرة أمانة علمية في أيديهم وأقلامهم، من المستفيدين من منابعه السيالة في حياته ومن إنجازاته المبهرة بعد مماته ولا يضنوا بأداءها إلى الجيل الجديد والنشء الحديث مما يغني عن أن يسطر عنه مثلي أنا وأن يكسر سن القلم على القرطاس، اللهم إلا تشرفا بسيرته النموذجية ومعتزا بمسيرته العلمية، في ضوء ما لاحظته من المحادثات العلمية وما قرأت من كتاباته العلمية الموصوفة بالاحتواء والشمول، وتخزين المعلومات بما لها وما عليها مما اكتسى قلبي بألوان من الحب والألفة رغم عدم مواجهتي إياه ورؤيتي له إلا لدقائق معدودة سبق ذكرها.
بكينا وفاء لامرئٍ قل أن يُرى
له في الدعاة العاملين نظير
فهذا هو الرجل الذي فقدناه، فقدناه ونحن في أشد الحاجة إليه، لأنه عاش عيشة نموذجية حافلة بالمآثر الحميدة والمفاخر الجميلة وبقي حياة مفعمة بالأعمال الجليلة والمجهودات العظيمة حيث قدم إلى العالم الاسلامي، ثروة موسوعية علمية قيمة تزدان بها المكتبات الإسلامية،
فهو يعتبر من أبرز أعلام الأمة الإسلامية في العصر الراهن ورمزا من رموز البحث والتحقيق في العالم الاسلامي ومنارة من منارات الاسلام الشامخة لما قد آتاه الله علما واسعا وذكاء حادا وفكرة وقادة وبديهة حاضرة وحنكة مؤثرة نادرة في حفظ السنوات والتواريخ وظروف الوقائع والحوادث وقدرة فذة على تحقيق المخطوطات النادرة واستخراج خزائنها والكشف عن رموزها وقراءة خطوطها المستغلقة، كما أودعه الله سبحانه وتعالى تسخيرات عظيمة لخدمة تراث الإمامين الجليلين ابن تيمية وتلميذه الرشيد ابن القيم وغيرهما -رحمهم الله جميعا-.
هذا بالإضافة إلى ما لعبه الأستاذ محمد عزير شمس من دور مزدهر في إثراء المكتبات الإسلامية بتحقيقاته الماتعة ومؤلفاته القيمة، وتوجيه عنان طلبة العلم توجيها سديدا، وتنبيههم على ما كان ينبغي لهم، وتغذية عقولهم وإعداد نفوسهم وصقل مواهبهم وتنمية مهاراتهم العلمية حيث نفخ في نفوسهم روح الاعتزاز بتراثهم الغني المزدهر الإسلامي وشعور التبجح بمكانة أسلافهم الصالحين النابهين الذين بذلوا حياتهم المستعارة وقضوا نحبهم في خدمة الدين الإسلامي المتين ونشر العلوم الشرعية الغراء، وذلك من خلال كتاباته الرصينة وبحوثه الممتعة ومقالاته المفيدة وآرائه السديدة وحوارته العلمية.
فجزاه الله خيرا عنا وعن المسلمين خير الجزاء وأحسنه.
ومن ثَم صارت الأمة الإسلامية بأجمعها مرتهنة بمكافأتها له ولو بالدعاء له بالمغفرة والرضوان على أقل الدرجات
لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه”(٢)
فقد عرف -رحمه الله- باستيحاشه من الدنيا وزهرتها وروعتها وبحميته الإسلامية وبإعجابه بالتراث الإسلامي أشد الإعجاب، وبتفانيه في خدمة العلم وبالاستيناس بالعلماء والطلاب والمشتغلين بالعلم كما اشتهر ببذله النصائح للآخرين والجود المعرفي، والسخاوة العلمية رغم اشتغاله الشديد بشؤون الدراسة والمطالعة والبحث والتحقيق بما يفوق الوصف والبيان، حتى أنا أرجو من الله رب العزة والجلال أن يكون الفقيد الراحل من زمرة الذين تبكي عليهم السموات والأرض، وتسيل الدموع والعبرات على ارتحالهم من هذه الدنيا إلى الآخرة كما يدل على ذلك مفهوم الآية”فما بكت عليهم السماء والأرض” لأن وجوده لم يكن محصورا في ذاته فحسب إنما كان نفعه أعم وأشمل للآخرين، "فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه”(٣)
لقد صدق من قال ممن عاصره وعاشره وزامله:
"إنه كان مكتبة ماشية على وجه الأرض -بمعنى الكلمة- وشجرة مثمرة خاضعة لكثرة ثمارها يقطف منها من شاء متى شاء كيفما شاء.”
ولله در الشاعر:
هيهات أن يأتي الزمان بمثله
إن الزمان بمثله لبخيل
لقد توفي -رحمه الله- وهو حي في بطون الكتب وسطورها ورفوف المكتبات ودواليبها، وهوامش المجلدات، وحواشي المؤلفات، ومراجع البحوث، ومصادر المقالات، حتى ما زالت ولا تزال ألسنة المحققين الباحثين النابهين رطبة بذكرياته الفواحة العطرة، وبليلة بباقياته الصالحة الرشيدة مما يدل دلالة واضحة على أن الفقيد النبيه-رحمه الله- قد حصل له القبول في الأرض والاستهناء القلبي والسمعة الطيبة والمحبة الإيمانية لدى الناس عامة وطلبة العلم وعشاقه خاصة. وذلك لأنه -رحمه الله- لم يكن خطيبا جماهيريا وواعظا مصقعا ومتكلما متفوها وإنما كان عالما ربانيا يحمل في صدره أحاسيس الأمة الإسلامية وآلامها ويحب الظرافة والرزانة في كل شيء ويعرب عن آراءه وأفكاره بالتي هي أحسن، ولا ينبس بنبت شفة بكلمة مثيرة للغضب والحماس مهما كان الموضوع حارا كما يحرك القلوب بتذكيره ويهز النفوس بكلماته المخلصة الوعظية فكان للقلوب والنفوس إليه ميول وانجذابات.
موت التقي حياة لا انقطاع لها
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
فرحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته وأغدق عليه شآبيب رحمته ورضوانه.
___________
المراجع والمصادر
(١)صحيح مسلم، كِتَاب البر وَالصلة وَالآداب، باب استحباب العفو والتواضع رقم الحديث (٢٥٨٨)
(٢)سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب، عطية منْ سَأَل بِاللَّه رقم الحديث (١٦٧٢)
(٣)سنن ابن ماجه، المقدمة، باب من كان مفتاحا لِلخير رقم الحديث (٢٣٧)
Leave a Reply