الوسطية والاعتدال بين دلالات النصوص وأقوال العلماء

فاروق عبد الله النَّرَايَنْفُورِي الفرق والطوائف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد.
فقد وَصَفَنَا الله في كلامه المجيد بالوسطية، حيث قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾. [سورة البقرة 143].
فمِن عظيم شرفٍ لنا أننا أمةُ وَسَط, لكن يأتي السؤال: ما هي الوسطية التي لها هذا الشأن العظيم؟
فقد كَثُرَ استعمالها في عصرنا, وكل طائفة تَدَّعي الانتماء إليها مُسْلِمةً كانت أو كافرةً؛ لأنها تُعانق الصواب وتخدم الواقع وتهز المشاعر وتأسر أرباب الرأي, وكُلٌّ يفسرها بما يوافق غرضه وهواه, وهو أقرب ما يكون بمعنى التساهل, والتنازل على رغبات الناس وهواهم, وترك الالتزام بالسنن الثابتة, فنسمع كثيرًا من الإعلاميين والصُّحَفِيِّين يَعُدُّون مَن يلتزم بالسنة, ويُوَفِّرُ لِحَاه ولا يُسبِل إزاره, ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, ويرد على البدعة وأهلها، وينهى عن مجالستهم: متشدِّدًا, ومتنطِّعًا, ومتطرِّفًا, ووهَّابيًّا, ومدخليًّا, وجاميًّا, وما إلى ذلك من التُّهَم الباطلة, ومن يتنازل على رغباتهم, ويغمض عينيه عن خرافاتهم وخزعبلاتهم فلا ينكر عليهم ولا يرشدهم إلى الحق فهو عندهم في قِمَّة الوسطية والاعتدال.
فانقلب مفهوم الوسطية عن حقيقته وانعكس؛ لأنه على هذا المعنى لا يُعَدُّ العمل بالكتاب والسنة وسطيةً واعتدالًا, والحق أن الكتاب والسنة هما المصدران الأساسيان لفهم معنى الوسطية والاعتدال, وهما المعيار والميزان لضبط معناها ومفهومها, فالله عز وجل هو الذي شَرَّفَنا بهذا الشرف العظيم, فيجب علينا أن نرجع إلى تفاسير السلف لتحديد معناها, وضبط مفهومها.
فكلمة «الوَسَط» وردت في نصوص الكتاب والسنة وتفاسير السلف على ثلاثة معان:
*الأول: المتوسط لما بين طَرَفَيْ الشيء وحافتَيْهِ.*
يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «البَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافتَيْهِ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ». [أخرجه الترمذي في جامعه برقم 1805, وقال: هذا حسن صحيح, وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/49)].
*الثاني: العَدْل.*
ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية المتقدمة, فقال: «الوَسَطُ: العَدْلُ». [أخرجه البخاري في صحيحه برقم: 3339].
وقال به جماعة من السلف كابن عباس رضي الله عنه, ومجاهد, وسعيد, وقتادة, وربيع, وعطاء, وعبد الله بن أبي كثير رحمهم الله, وغيرهم. [انظر: تفسير الطبري 3/143-145, وزاد المسير لابن الجوزي 1/119].
والعَدْل يُجَانِب الإفراط والتفريط, يقول الحكيم الترمذي رحمه الله: عدلًا لا يمِيل إِلى إفراط ولا إِلى نُقْصان. [نوادر الأصول 2/93].
*الثالث: الخيار.*
قرنت جماعة من السلف كلمة "الخيار” بـــــ”العدل” في بيان معناها, فقالوا: الوسط: العدل الخيار.
يقول ابن قتيبة الدينوري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ”{جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عَدْلا خِيارًا، ومنه قوله في موضع آخر: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أي: خيرهم وأعدلهم“ ۔ [غريب القرآن له ص64].
وقال إمام المفسرين أبو جعفر الطبري رحمه الله: ”الوسط: العدلُ, وذلك معنى الخيار، لأن الخيارَ من الناس عُدُولُهُم“. [تفسير الطبري 3/142].
وتبعه جماعة من المفسرين في تفاسيرهم كالسمعاني في تفسيره (1/148), والبغوي في تفسيره (1/174), والحافظ ابن كثير في تفسيره (5/457), والشوكاني في فتح القدير (1/174), والسعدي في تيسير الكريم الرحمن (ص70).
فتبين لنا مما سبق من دلالات النصوص واللغة وأقوال الأئمة أن الوسطية صفة محمودة تعصم الفرد من الميل إلى جانبي الإفراط والتفريط, وتقيمه على طريق الاعتدال والتوازن في جميع أمور الحياة.
فالوسطية إذن لا تسمى وسطية إلا إذا كانت بين إفراط وتفريط، وذات خير وذات عدل، والدلالة اللغوية للوسطية على التوسط بين شيئين وحده مفهومٌ ضَيِّقٌ وقاصر لا يعطي لاصطلاح الوسطية حقَّه من الدلالة, فلا يكفي للوسطية أن يكون الشيء متوسطًا فحسب؛ مهما كان موضوع هذا الوسط, فالمنافقون مثلًا في منزلة وُسطى بين الإيمان والكفر, وكذا إطلاق المعتزلة على مرتكبي الكبيرة بأنهم في "منزلة بين المنزلتين”, وبهذا المعنى يصير المتوسط الذكاء أفضل من اللامع العبقري, والكل يدرك أنه غير مقصود عند الله عز وجل بهذا الاصطلاح.
يقول الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسيره (3/142): "أرى أن الله -تعالى ذِكْرُه- إنما وصفهم بأنهم "وسَط”، لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هُم أهلُ تقصير فيه تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها”.
وقال الكلبي رحمه الله: "يعني أهل دين وسط بين الغلو والتقصير, لأنهما مذمومان في الدين”. [انظر: معالم التنزيل للبغوي 1/158].
وقال ابن الجوزي رحمه الله: "أصل ذلك أن خير الأشياء أوساطها، والغلو والتقصير مذمومان”. [زاد المسير 1/119].
وقال الشوكاني رحمه الله: "ولما كان الوسط مجانبًا للغلو والتقصير كان محمودًا, أي: هذه الأمة لم تَغْلُ غلوَّ النصارى في عيسى, ولا قَصَّروا تقصير اليهود في أنبيائهم”. [فتح القدير 1/175].
فالوسطية كما تدل عليها النصوص وفهم السلف الصالح لها تلازم الخيرية, فلا وسطية بدون خيرية, فليس المطلوب إذن أن يكون الإنسان في درجة متوسطة في عباداته ودراسته وعمله وأخلاقه, بل المطلوب منه أن يكون متقدمًا ومتفوقًا ومتميزًا على الآخرين, وأن يكون في جميع أعماله أجود وأفضل وأكمل وأعدل, فهي خصلة محمودة بين طرفين مذمومين.
والمعيار في الحكم بين المحمود والمذموم: هو الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وليست الأفراد والجماعات, أو الأهواء والتقاليد والأعراف والعقول أو ما تعارف عليه الناس, فكل ما دلت عليه الشريعة فهو الوسطية والاعتدال، وكل ما خالفته فهو الانحراف والضلال, نسأل الله العافية والسلامة.
أخيرًا أدعو الله عز وجل أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وصلى الله على النبي, وآله وصحبه.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of