ملف الانتحار

شمس الرب خان الإنتاج الأدبي النثري

كانت تجلس في زاوية على درجات جسر لمحطة القطار المحلي وعلى جانبيها ولدان صغيران كانا يتراوحان بين الغفو والصحو. ربما كان عمرها يناهز العشرين. وعلى الرغم من آثار التعب والمشقة الظاهرة على محياها، كانت ملامح وجهها ومنظر جسدها الخارجي تشي بأن كانت لها أيام النعمة ورفاهة البال قبل أيام الشقاء و البؤس…كانت تلح على المارين بصوتها المبحوح:

” أخي، أصابنا جوع شديد، أعطنا شيئا لنشبع جوعتنا.”
” أختي، ليس لنا في الدنيا أحد، ارحمي علينا، يرحم الله عليك.”
” عمي، أخي مريض، أعطنا شيئا لأداويه.”
” عمتي، لم يبق لنا بيت ولا مسكن، أعنا أعانك الله.”
” جدي، بارك الله فيك، تصدق علينا.”
” جدتي، أنعم الله عليك بالهناء وطول العمر، أنفقي علينا.”

كم مروا بها وهم كالجماد، وكم مروا بها يتحسسون جيوبهم، وكم توقفوا بها وانحنوا يطرحون العملة المعدنية على الثوب الممدد أمامها ثم انطلقوا مسرعين وتتعاقبهم أصوات دعائها حتى يقطعها البعد أو عمل أحد مثله. بعد نهار من الإلحاح المتواصل، كانت تجد قدر ما يكفي قوت يومها ويوم أخويها.

دارت الأيام على عادتها، وفي ليلة حينما أوشكت أن تحسر الثوب الممدد أمامها وترجع إلى مكان آمن من الرصيف ليناموا، جاء رجل بدت على مظهره وزيه آثار الغنى والترف وانحنى على الثوب الممدد وطرح عليه عملة ورقية من مائة روبية ثم تقدم مسرعا بعد إلقاء نظرة عابرة على وجهها. أسكتتها الحيرة لحظات ثم أعادت وعيها و شكرته بقدر ما تمكنت من رفع صوتها بالشكر والامتنان.

وكان الأمر بعد ذلك أن تعود الرجل على هذا العمل بانتظام. كل ليلة في ذلك الوقت بالضبط، كان يأتي ويطرح أمامها عملة ورقية من مائة روبية. استمر على ذلك لعشرة أيام تقريبا حتى ألفت به وبعمله هذا. ظنته غنيا متبرعا وتعاملت معه لذلك بالاحترام والحذر حتى أظهر لها تدريجيا أشياء غير عادية لفتاة في حال كحالها من فتى كمثله: فذهب منها الحذر، وتبادلا النظرات، والابتسامات، ثم الدلالات حتى نسيت أو تناست من كانت، وراحت تحلم أحلاما…

وفي ليلة من الليالي، جاء وتبسم لها، ثم وضع على كفها عملة ورقية من مائة روبية… وورقة مكتوبة فيها شيئا..ثم رحل مسرعا من ذلك المكان واحتجب في مكان يراها منه ولا تراه… خفق قلبها بين أضلاعها… وفتحت الورقة… وقرأت… فإذا فيها:

” ليلتك في جنبي تضمن لك أضعاف كل ما أعطيتك حتى الآن.”

اهتزت الورقة في يدها اهتزازا عنيفا وأظلمت دنياها في عينيها، ثم انفجرت في بكاء نشيج حاد لأول مرة أمام أخويها بعد وفاة أبويها في حادثة…استشعرا بجدية الوضع، وتوجها بسؤالهما إليها فزعين:

” ماذا حدث، يا أختاه…؟”

ابتسمت مجبرة على نفسها وقالت: لا شيء، لا شيء، هدئا من روعكما، لم يحدث شيء… ”

ثم تتابعت بالقول بعد أن لاحظت قرب موعد قدوم القطار الأخير لليلة على المؤشرة الاليكترونية: "ولكن لم يبق هذا المكان آمنا، هيا بنا نذهب إلى محطة أخرى…”

فهما شيئاً أو لم يفهما، ولكنهما هزا رؤوسهما بالموافقة…

جاء القطار الأخير لليلة وحمل ثلاث نفوس متوجسين إلى محطة أخرى…تحرك ظل في مكان مظلم من الرصيف وركب القطار الأخير قبل رحيله…

في الصباح الباكر، جاء رجل ليقضي حاجته على سكك الحديد بين المحطتين ورأى ثلاث جثث… وأخبر الشرطة…

جاء شرطي وتفحص الجثث…

أدرك في لحظتها أنهم كانوا فقراء متسولين بسبب الآثار الظاهرة عليهم…

أمر بإرسال الجثث إلى المشرحة ورجع إلى محطة الشرطة، ثم جلس يكتب الملف حول الحادث…لمعت للحظة أمام عينيه آثار العض على خدي الفتاة، ونهدها، وفخذيها… ولكنه نفض الفكرة من ذهنه بشدة، وشرع يكتب: ملف الانتحار…

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of