صديقٌ من الأصدقاء، وفيٌ من الأوفياء، زميلٌ من الزملاء، بيني وبينه أواصر وُدّ، وترابط حبّ، أستبثه ذات نفسه فيفضي إلي بسرِّه ، كانت الرُّفقة جعلت حياتنا تبتسم، عهدى به أنه ذكي فطين ، قوي الذاكرة ، يقظ القلب ، طلق اللسان ، يكثر من الكلام ولكن ليس بثرثار ولا مهذار، جلّ ما أعلم فىه أنه بعد حصوله على شهادة الفضيلة تعلّم الكمبيوتر بإتقان، ثم غاب عني خبره وانقطع مني حبله، وكنت منذ مدة مديدة لا أعلم ما هو شغله الشاغل، ربما تأتي عصفورة ذكراه وتسجل حضورها ثم تطير في فضاء الخمول والذهول ، أو حينًا من الأحيان أنادي باسمه المسجَّل فى صفحة قلبي .
كان الليل يحدو النهار، والنهار يحدوه، وكانت الشمس تحتجب فيبحث عنها القمر مع الكواكب ، إذ اتصل بي يومًا قبل شهرين، وقلَّب أوراقا من كتاب حياته وهو مجهش بالبكاء، وسرد قصته التي نزلت على كالصاعقة، هي أنه مؤ ظف فى جامعة ونيط به من أعمال ما تأبى عليه نفسه الأبية أن يقوم بها إباء تامًا، ولكن ما الحيلة والعوائق جمة، وما الكيد إذ الموانع مزدحمة، فلم ألبث أن اندفع قلمي إلى الكتابة عن:”اعرف نفسك بنفسك”. وشددت أزرى .
فيا أولى الأحلام والنهى! طالما يلاحظ عيانا أن المرء فى كثير من الأحوال والظروف يكون معروضا غيره العارض ، موصوفا غيره الواصف ، مظلومًا غيره الظالم ، وما يكون كذا إلا "أن الشـي إذا زاد قربه صعبت رؤيته "[حياتي لأحمد أمين] فإنّ القمر لا ينعكس إلا على سطح الماء، ولا يرتسم إلا على صفحته البيضاء ، "فالعين لاترى نفسها إلا بمرآة ، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أوقول صديق ، أو بمحاولة للتجرد ، ثم توزيعها على شخصيتين؛ ناظرة ومنظورة ،حاكمة ومحكومة…… وما أشق ذلك واضناه …الخ” [حياتي لأحمد أمين] فإن كنت مستوقفا أيها القاري! وقفتى تجاه هذه الفكرة فاعلم إني أتجاوب مع فكرته وأسايره فى وجهة نظره، وأذعن بأنه صعب المنال، لكن ادعى أنه ليس بمحال على أية حال ..فمن أصدق المشهود به أن المعزام المتحمس ، شديد الشكيمة، كبير الهمة ، قوى الإرادة رابطة الجأش يندفع إذا حمي الوطيس واشتعلت نيران الحرب فى فم الموت ( الذى يمضغ لقمته ثم يبتلعه) فيصارعه حتى صرعه ويقارعه حتى قرعه ويكسر ثنيتيه ويتخلص منه .. لذا يقال :
إذا كانت الإرادة قوية ، والهمة رفيعة ، لم يعبأ المقدام الجرئ بالصخور فضلا عن الحجار ، يقطف النجوم إذا طار ، ويعصر الأحجار إذا اشتد به العطش.
فعلى ذلكم إن عقد أحد نيته وأبرمها على أن يعرف نفسه لعرفها وعرف ما منح من الهبات الربانية، وفطن لميزته التي أودعها الله كل نسمة ، واطلع على در يتكون فى صدفه ..
فيا أيها اللبيب! اعرف نفسك بنفسك ، فإنك أعرف بها من غيرك ، لأنَّ صاحب البيت أدرى بما فيه، واعلم أن للنفس أعماقا كأعماق البحار، من غاص فيها عثر على اللآلى والمرجان، ومن طفا حظي برغوة الخبال وفقاقيع الحرمان ، إنها يم فلاتطف على سطحه بل انزل فى قعره فإنك اسبر بغوره وأخبر بعوره ..
أيها الحبيب ! اعرف نفسك بنفسك ، لأنّ من عرف نفسه عرف قدره ، ومن عرف قدره صار رفيعًا إن كان وضيعا ، كريما إن كان دنيئا ، راجيًا إن كان يائسا قنوطا ، يذود عنه كل ما ينال من قدره ويرتع من عرضه ، ومن رفع قدره ، وصان عرضه ليبلغن لا محالة إلى غرضه النبيل ، ويطرق إليه السبيل ..
أخى القارى ! إنك مسافر فلا تضع عن كاهلك العصـي ، وإلا امتدت المسافة ، وازداد البعد ونأى عنك المنزل ، فقد صدق من قال:
ایک پل کے رکنے سے دور ہوگئ منزل
صرف ہم نہیں چلتے راستے بھی چلتے ہیں
وإن استصحبك الإعياء والجهد فلا تصاحبه، وتيقن أنك ستشاهد على جانبيك من المناظر السارة منظرًا يصرف وجهة نظرك ، وتسمع من أناشيد وترنيمات تشعر بدبيب سيرها فى أعراق جسدك ، ما يطربك ويثملك ، يحلو لك سمعها ، وتواجه من عراقيل السبل ما يهدأ سرعتك ، ويثبط مسيرتك ، كل ما تعرض لك فى رحلتك هذه من المناظر والأناشيد والعوائق ينقص من همتك ويقلل من عزمك فأبرمه حتى لا يحله إلا ريب المنون، وسارع مستقيما إلى مارمت ماخفق قلبك ونبض حبل وريدك ، ولا تلتفت يمنة ولا يسرة فإن جانى الأزهار لا يعترض للأشواك ، وردد ما نظمه الشاعر عبدالله باشا فكرى، فإنه أحث على نيل البغية:
إذا نام غر فى دجى الليل فاسهر
وقم للمعالى والعوالى وشمر
وسارع الى ما رمت ما دمت قادرا
عليه وإن لم يبصر النجح فاصبر
(1) حياتى لأحمد أمين
(2) المصدر السابق
Leave a Reply