التفقه في الدين

صهيب حسن المدني المباركفوري الفقه

الحمدُ لله ربّ العالمين، الرّحمنِ الرحيم، مالِكِ يوم الديِنِ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، اِلهُ الأولين والآخرين، قيومُ السموت والارضينَ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، الصادقُ الأمين، المبعوثُ رحمةً للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن سارعلى نهجهم إلى يوم الدّين.
أما بعد! فقد قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة:١٢٢]
أيها المستمعون الكرام! نحمدالله ونشكره على ما منَّ علينا للمشاركة في هذه الندوة العلمية العظيمة المسماة "فقهى سيمينار” التي عُقِدت لبيان أهمِّية الفقه الإسلامي ومفهومه وتاريخه، وأنا كُلِّفتُ في بداية البرنامج لإلقاء بعض الكلمات، وأنا لستُ أهلاً لذلك، ولكن امتثالاً لأمر إخواننا المسؤولين لبَّيتُ دعوتَهُم، وأسأل الله العظيم ربَّ العرشِ الكريم أن يجعل هذه الندوة العلمية مثمرة ونافعةً لنا وللمتعاونين عليها والمشاركين فيها في الدنيا والآخرة، وأن يجعلها خالصةً لوجهه الكريم، آمين.
أيهاالإخوة! الفقه في الدين أصل كلِّ خير، به تنجلي القلوبُ فتُقبِلُ على الخير، وتُعرِضُ عن الشـرِّ، والمراد به: حفظ الكتاب والسنة، وفهم معانيهما من: الأصولِ، والفروعِ، والآدابِ، والفَضائلِ.
وممايدلُّ على أهمية التفقه في الدين قولُه تعالى{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة:١٢٢].
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسير هذهِ الآية:
” أي: ليتعلَّموا العلم الشرعيَّ، ويعلَموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلِّموا غيرَهم، وليُنذروا قومَهم إذا رجعوا إليهم.
ففي هذا فضيلة العلم، وخصوصا الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور، وأن من تعلَّم علمًا فعليه نشـرُه وبثُّه في العباد، ونصيحتهم فيه، فإن انتشار العلم عن العالم، من بركته وأجره، الذي ينمى له. انتهى كلامه رحمه الله. [تفسير السعدي (ص:355)].
ومما يدلُّ على أهمِّية التفقُّه في الدين وفضلِه قولُه صلى اللهُ عَليهِ وسلّم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُـرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ». [البخاري (71)].
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وَقد تتَعَلَّق الْأَحَادِيث الثَّلَاثَةِ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ بَلْ بِتَرْجَمَةِ هَذَا الْبَابِ خَاصَّةً مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْخَيْرِ لِمَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللّه وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِالِاكْتِسَابِ فَقَطْ بَلْ لِمَنْ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ» [فتح الباري (1/164)].
ويقول النواب صديق حسن خان: "ومفهوم الحديث: أنَّ من لم يتفقَّه في الدين؛ أي: يتَعلَّم قواعد الإسلام التي اشتمل عليها الكتابُ والسنةُ، وما يتصل بها من الفروع الصحيحة المأ ثورة، فقد حُرم الخيرَ … وأنَّ مَن لم يعرف أمورَ دينه، ومعانيَ كتابِ الله وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم لايكون فقيهاً أبداً، ولا طالبَ فقهٍ، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهرٌ لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه، وهوالتفهم فى الدين؛ أي الكِتابِ والسنةِ على سائر العلوم، بل لاعلم إلاّ ما علّمهُ اللهُ أنبياءَه، وعلَّمه أنبياؤه أممَهم، وما سوى ذلك فضلٌ، "وإنّما أنا قاسم” أي: أقسِم بينكم تبليغَ الوحي من غير تخصيصٍ، "واللهُ يُعطي” كلَّ واحدٍ منكم من الفهم على قدر ما تعلّقت به إرادته تعالى، فالتفاوت في أفهامكمُ منهُ ـ سبحانهُ وتعالى ـ، وقد كان بعضُ الصحابة يسمع الحديث، فلا يَفهمُ منهُ إلاّ الظاهرَ الجلي، ويَسمعُهُ آخَرُ منهُم، أو مِن القرن الذي يليهم، أو ممّن أتى بعدهم ، فَيَستنبطُ منهُ مسائلَ كَثيرةً، وذلِك فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاء. انتهى كلام النواب رحمه الله. [عون الباري (1/362-63)].
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين (رحمه الله تعالى): "وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي له أن يحرص غاية الحرص على الفقه في الدين؛ لأنّ الله تعالى إذا أراد شيئا هيَّأ أسبابه، ومن أسباب الفقه أن تتعلم وأن تحرص لتنال هذه المرتبة العظيمة أن الله يريد بك الخير، فاحرص على الفقه في دين الله، والفقه في الدين ليس هو العلم فقط بل العلم والعمل، ولهذا حذر السلف من كثرة القراء وقلة الفقهاء، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقلَّ فقهاؤكم) فإذا علم الإنسان الشيء من شريعته الله ولكن لم يعمل به فليس بفقيه حتى لو كان يحفظ أكبر كتاب في الفقه عن ظهر قلب ويفهمه، لكن لم يعمل به؛ فإن هذا لا يسمى فقيها يسمى قارئا لكن ليس بفقيه الفقيه هو الذي يعمل بما علم فيعلم أولا ثم يعمل ثانيا هذا هو الذي فقه في الدين، وأما من علم ولم يعمل فليس بفقيه بل يسمى قارئا ولا يسمى فقيها ولهذا قال قوم شعيب لشعيب: {ما نفقَهه كثيرًا مما تقول} لأنهم حُرموا الخير لعلم الله ما في قلوبهم من الشر، فاحرص على العلم واحرص على العمل به؛ لتكون ممن أراد الله به خيرا، أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من هؤلاء الذين فقهوا في دين الله وعملوا وعلموا ونفعوا وانتفعوا”. انتهى كلامه رحمه الله [شرح رياض الصالحين5/422].
وممايدُلُّ على أهمية التفقه في الدّين قولُ الله عزوجل للرّسول صلى الله عليهِ وسلّم”وقُل ربّ زِدني علماً” [طه:114] معناه أن الرسوُل صلى الله عليهِ وسلَّم محتاج "إلى زيادةِ العلم لأنه لم يقل له”، وقل ربِّ زدني مالاً، زِدني زوجاتٍ، زِدني أولاداً”. قال الحافظ ابن حجر:”وهذا واضح الدّلالة في فضل االعلم؛ لأنّ الله لم يأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شىءٍ إلَّا من العلم.
وكذلك أيها الإخوة! يدلُّ على أهمية التفقه في الدين دعاءُ النبي صلى الله عليه وسلَّم بعبدالله بن عبّاس – رضى اللهُ عنهما- بعد أن مسح رأسه: اللهم فقِّهه في الدّين، وعلِّمهُ التأويل” [رواه أحمد وابن حبان والطبراني] وقد تحققت إجابته صلى الله عليه وسلم، فقد كان ابن عباس بحرَ العلم، وحبرَ الأمة، وترجمان القرآن، ورئيس المفسـرين. [عون الباري (1/369)].
وبهذا اتضحت لنا أهمية الفقه وفضلُه، فالذى يُنكره وهولايعيب إلاّ نفسه كما قال الشاعر:
عاب التفقه قومٌ لا عُقــولَ لهم وما عليه إذا عــــابوه من ضَـرَى
ماضرّ شمسَ الضحى والشمسُ طالعة أن لايَرى ضَوءَها مَن ليس ذابصر
[المدخل إلى دراسة الفقة الإسلامى لعلي الشريجى(ص: ٣٨0)]
وعلى طا لب العلم الذي يريد أن يتفقه في الدين أن يعتني بالعلوم الثلاثة التي عليها مدارُ العلم الشرعي، وهي: التفسير والحديث والفقه.
وخيرُ ما يُفسَّرُ به القرآن : القرآن، ثمّ سنةُ الرسول صلى الله عليه وسلم، ثُمّ كلامُ السلف من الصحابة والتابعين بإحسان، وأهمّ الكتب في ذلك: (تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري) [المتوفى سنة ٣١٠هـ]، و(تفسيرالحسين بن مسعود البغوي) [المتوفى سنة ٥١٦ هـ]، و(تفسيـر إسماعيل بن كثير) [المتوفى سنة ٧٧٤هـ]، و(كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن) للعلامه محمد الأمين الشنقيطي [المتوفى سنة ١٣٩٣هـ].
ومن أهمِّ الكتب المؤلفة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتب الستة، ومن أشهرها سواها موطا الإمام مالك، وسنن الدارمي، ومسند الإمام أحمد. فالطالب يرجع إلى هذه الكتب وإلى شروحها التي اشتملت على إيراد الفوائد الفقهيةِ المُستَنبَطةِ من الأحاديث ولا يعتني إلاّ بِما ثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم وهومن قبيل الصحيح أو الحسن وأما الأحاديث الضعيفة التي لا تستفاد الأحكام إلاّ منها فلا يُعوَّلُ عليها، وإنما التعويل على ماثبتت نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة والأحاديث الحسنة، وكذلك ينبغي له أن يرجع إلى الكتب المدونة في الفقه للاستفادة منها؛ وذلك لمعرفة الأقوال وأدلِتها وما يترجح منها وَفقًا للدليل، والكتابُ في فقه المذاهب الأربعة كثيرة، منها المختصـر، ومنها المطوّل، وأوفى هذه الكتب وأشملُها كتاب (المغني) للإمام ابن قدامة المقدسي (المتوفى سنة٦٢٠هـ). وكتاب (المجموع شرح المهذب) للإمام النووي [المتوفي سنة ٦٧٦ هـ] ، وكتاب (الاستذكار) لأبي عمر بن عبدالبر المتوخى (سنة٤٦٣هـ)، وذلك لاشتمال هذه الكتب الثلاثة على الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح (٣٩٥-٣٩٦) :
فَمن عرض أَقْوَال الْعلمَاء على النُّصُوص ووزنها بهَا وَخَالف مِنْهَا مَا خَالف النَّص لم يهدر أَقْوَالهم وَلم يهضم جانبهم بل اقْتدى بهم فَإِنَّهُم كلهم أمروا بذلك فمتبعهم حَقًا من امتثل مَا أوصوا بِهِ لَا من خالفهم فخلافهم فِي القَوْل الَّذِي جَاءَ النَّص بِخِلَافِهِ أسهل من مخالفتهم فِي الْقَاعِدَة الْكُلية الَّتِي أمروا ودعوا إِلَيْهَا من تَقْدِيم النَّص على أَقْوَالهم وَمن هُنَا يتَبَيَّن الْفرق بَين تَقْلِيد الْعَالم فِي كل مَا قَالَ وَبَين الِاسْتِعَانَة بفهمه والاستضاءة بِنور علمه فَالْأول يَأْخُذ قَوْله من غير نظر فِيهِ وَلَا طلب لدليله من الْكتاب وَالسّنة بل يَجْعَل ذَلِك كالحبل الَّذِي يلقيه فِي عُنُقه يقلده بِهِ وَلذَلِك سمى تقليدا بِخِلَاف مَا اسْتَعَانَ بفهمه واستضاء بِنور علمه فِي الْوُصُول إِلَى الرَّسُول صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يجعلهم بِمَنْزِلَة الدَّلِيل إِلَى الدَّلِيل الأول فَإِذا وصل إِلَيْهِ اسْتغنى بدلالته عَن الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِهِ فَمن اسْتدلَّ بِالنَّجْمِ على الْقبْلَة فَإِنَّهُ إِذا شَاهدهَا لم يبْق لاستدلاله بِالنَّجْمِ معنى قَالَ الشَّافِعِي اجْمَعْ النَّاس على أَن من استبانت لَهُ سنة رَسُول الله لم يكن لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد”.
ومع رجوع طالب العلم إلى كتب الفقهاء للاستفادة منها، عليه أن يوقرهم ويسلك طريق الاعتدال فيهم، فلا يتعصب لأحد منهم، ولا يجفو منهم، بل يذكرهم با لجميل اللائق بهم، وقد قال الإمام الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة: "وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخَبَر والأثر وأهلِ الفقهِ والنظر، لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غيرالسبيل”.
وخلاصة القول أنّ من هيّأ الله له الأسباب للتفقه في الدِّين فعليه أن يتعلَّم من الفقه كل ما يحتاج إليه في عباداته ومعاملاته، وأن يكون جامعًا في دراسته بين الحديث والفقه، بين الدليل والمدلول؛ لأنَّ الفقيهَ لابُدّ له من الحديث، والمحدِّث لا بُدّ له من الفقه، وأما العامي ومن لم يتمكن من معرفة الحق في المسائل الفقهية، ولم يجد من أهل العلم من يبصره فيها فله أن يُقلّد أحدالمذاهب الأربعة، لأنه مضطر، وقد قال الله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم” [التغابن: ١٦] قال الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ في ردِّه على الصّابوني عن تقليد الأئمة الأربعة:
"إنه من أوجب الواجبات، قال: "لاشك أنّ هذا الإطلاق خطأ، إذ لايجب تقليد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم مهما كان علمه؛ لأنَّ الحق في اتباع الكتاب والسنة لا في تقليد أحد من الناس، وإنما قصارى الآخر أن يكون العقيدة”. [أهمية العناية بالتفسير والحديث والفقه للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر (ص:8 ـ 50)].
ونكتفي بهذا القدر وفي الختام أسأل الله عزَّ وجل أن يوفق الجميع الفقه في الدين والثبات على الحق، وأن ينصـر دينه ويُعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين في كل مكان إلى ما تحمد عاقبة في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of