دروس من سيرة إبراهيم عليه السلام

عبدالغفار السلفي أسلوب حياة

إنَّ حياة سيدنا خليل الله إبراهيم عليه السلام حافلة بالدروس والعبر والمواعظ والحِكم، كان وحده أمة في نفسه، ولشخصيته جوانب عديدة وملامح مختلفة، فإنه رسولٌ مجتبى ونبيٌ يُقتدى وموحِّدٌ حنيف في جانب، وأبٌ كريمٌ وزوجٌ محبٌ وابن ودودٌ وداعٍ عطوفٌ في جانب آخر، وهو نموذج رائع للثبات على التوحيد، والصبـر في سبيل الدعوة إلى الله، و الاستسلام لقضاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك ذكره الله تعالى في أكثـر من موضع أنه لم يك من المشـركين، وأنَّ ملته يجب أن تُتبع، وهديَه أجدر أن يُتمسك به، وسيـرته أولى بأن تُقتدى.
عندما نرى سيـرة إبراهيم عليه السلام يتبادر ذهننا قبل كل شيء إلى استقامته في توحيده وصلابته في إيمانه وصدقه في توكله، فإنه قاوم جميع العوائق والمصاعب في سبيل الله، ألقي في النار، هدده والده بالرجم وأخرجه من بيته، عاداه قومه، هاجر من وطنه ولكن مع كل هذا لم يستسلم أمام الشرك والمشـركين قط، أعلن توحيده وأظهر بطلان الشـرك أمام الجميع، أمام والده وقومه وأمام المَلك، ولم يبالِ شيئا ولم يداهن في عقيدته قط.
إننا نجد في حياته الثبات على الدين، والإعراض عن كل ما يلهي عن الله ويعوق دون شـريعته، ولذلك سمَّاه الله حنيفا في أكثر من موضع.
ولو تأملنا حياة أبينا إبراهيم عليه السلام من حيث الوالد، نجد أنه كان أبا مثاليا، يدعو الله في شيبته للولد، ولكن لا للولد فقط بل يقول: "رب هب لي من الصالحين”، فاستجاب له ربه ووهبه غلاما حليما، ولما بلغ أشدَّه، بدأت مرحلة البلاء العظيم في حياة إبراهيم، أمره الله بذبح ابنه، فلم يتأخر طرفة عين في إجابة أمر ربه، وأتى ابنه واستشاره في هذا الصدد، وفي ذلك درس للآباء أن لا يتعاملوا مع أبناءهم كالدكتاتور والحاكم الجابر؛ بل يجب أن يشاوروهم في أمور البيت وخارجه، وليتيحو لهم فرصة لإبداء آرائهم، ثم نجد نكتة أخرى وهي أن الله تعالى قال عن إسماعيل ” فلما بلغ معه السعي …”، ونعلم جيدًا أنَّ الأب كان لا يسكن مع ابنه، بل كانت بينهما مسافة طويلة، فإبراهيم يسكن في فلسطين، وإسماعيل يسكن في مكة، ومع ذلك عبـَّر القرآن الكريم العلاقة بينهما بالمعية، فمعنى ذلك أن الوالد المثالي هو الذي يحبُّ ولده حيث يشعر الولد معية والده وقربه دائما ولو كان بينهما مسافة طويلة، فالمعية الروحية أشدُّ وأهمُّ من المعية الجسدية، وإبراهيم عليه السلام لما رفع يديه للدعاء لم ينس ولده قط، فتارة يدعوا للأمن والسلامة لهم، وأخرى لرزقهم ومعيشتهم، ولما أتاح الله له منصِب الإمامة للناس لم ينس ذريته؛ بل ذكرهم وقتذاك، وقال: ومن ذريتي ؟؟ فملامح الوالد المثالي توجد بكمالها في سيرة إبراهيم عليه السلام.
وإذا نرى سيـرته من حيث الولد نجد أنَّ سلوكه الهادئ مع والده وحواره اللين معه، رسالةٌ إلى جميع الأبناء الذين لا يحسنون إلى آبائهم، فإبراهيم عليه السلام دعا والده إلى التوحيد في أحلى لهجة وفي أجمل أسلوب وبطريق مؤثر، ومع ذالك أجابه والده بالشدة والعنف، وهدَّده بالرجم، خاطب إبراهيم أباه بـ "يا أبت!” وأبوه خاطبه بــ”يا إبراهيم”، ولم يقل يا بني أو يا ابني، وبعد أن أخرج ابنه من بيته لم ينس إبراهيم أباه بل كان يذكره في دعائه، وينصح له ويستغفر له حتى نهاه الله تعالى عن استغفار والده؛ لأنه مات على الشـرك فانتهى وتبرأ منه.
في العصر الراهن هناك مبدء تداول وراج بين الناس وهو "الأسرة أولا”، أي يجب علينا أن نهتم بأسرتنا وأهلنا قبل كل شيء، ونرجحهم على كل شيء، وهذا المبدأ صحيح إلى حد ما، ولكنه منوط بشـرط وهو أن لا نقدم أسرتنا على رضا الله وأمره، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وعندما نشاهد سيرة إبراهيم عليه السلام نجد أنه مع كونه أبا مثاليا وابنا بارا وزوجا ودودا لم يلهه أهله وأسرته عن الله وذكره، إنه ترك والده لتوحيد الله، ترك زوجته وولده في واد غير ذي زرع بأمر الله، استعد لذبح ابنه لما أمره الله، فلا شيء أحب إليه من الله.
وكذلك عندما نلقي نظرة إلى حياة إبراهيم عليه السلام من حيث أنه كان داعيا إلى الله، نرى أنه استخدم جميع وسائل الدعوة التي كانت تحت إمكانياته، استخدم الموعظة والنصيحة في موضعه، واستعمل الحكمة في مقامه، وجادل بالتي هي أحسن إذا كانت الحاجة مست إليه، إن قومه كان محاطًا بأنواع من الشـرك؛ فكانوا يعبدون الأصنام ويسجدون لملوكهم والشمس والقمر والنجوم، وقد ردَّ على جميع أنواع الشـرك بالأدلة الواضحة والبراهين القاطعة حتى بهت الذي كفر.
وإبراهيم عليه السلام كان متصفا بصفة أخرى وهي أنه كان ذا حلم ورحمة، لم يغيره خشونة أحواله ولم تتبدل طبيعته مع حوادث الزمان، كان حليما أواها منيبا، جادل مع الملائكة في قوم لوط لحلمه وشدة رحمته وشفقته على البشرية، ولذلك لما رفع يديه قال في قومه : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم.
وكان عليه السلام متصفا بالإخلاص في جميع أعماله بعيدا عن الرياء والسمعة بل قدم التضحيات كلها لابتغاء رضا الله فقط، ولذلك لما بنى الكعبة المشـرفة بيت الله الأول في الأرض مع مساعدة ولده دعا الله أن يتقبل عمله فقال: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. فهذا المشـروع الكبير والعمل الجليل لم يدفعه إلى الغرور بنفسه بل بعد فور الفراغ من العمل استغفر، وسأل الله تبارك وتعالى لقبول عمله.
وهناك صفة أخرى تميز عليه السلام بين الأنبياء، وهي أنه كان متحليا بآداب الضيافة بل كان أسوة في هذا الباب، لما جاءته الملائكة في صورة رجال كرام، استضافهم مع أن أولئك الضيوف كانوا غير معروفين له، وكانوا قوما منكرين له، فإنه استقبلهم وأجلسهم وراغ إلى أهله وأسـرع في ضيافتهم وقدم إليهم عجلا، وقربه إليهم، وقال لهم ألا تأكلون ؟ فهذه كلها هي آداب الضيافة الكريمة التي حث عليها الإسلام، وكان عليه السلام متحليًا بها.
إن إبراهيم خليل الرحمن أسوة لنا في جميع جوانب الحياة، في العقيدة والإيمان، وفي السيرة والسلوك، وفي القيم والأقدار، وفي الدعوة والإصلاح، وفيما بين العبد وبين ربه وفيما بين العبد وبين الناس، يجب علينا أن نجعله قدوة لنا، ونتبع ملته، فلايرغب عن ملته إلا من سفه نفسه.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of