لا تستعجل!

عبيدالله الباقي أسلم التعليم والتربية

إن طريق العلم صعبة مفروشة بأنواع من الشوك، ولكن أزهاره طيبة، و ثمراته حلوة، وسعادته عظيمة، وأحاسيسه جميلة.
طريق التحصيل طويلة لا حدود لها؛ فهي تطول و تفترق، تتعمق وتتشعب، وتُتعب وتُسعد، و قد يرد عليها عديد من المفارق الوعرة؛ يضل منها أغلب سالكيها إلا من تزود بالصبر والتأني، و الاستقامة والثبات، والإخلاص، والابتغاء لوجه الله عز وجل.
وهذه هي الفئة المباركة التي بشّرها النبي صلوات الله وسلامه عليه بالطريق إلى الجنة :”وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ”(١).
طريق العلم لها شأن عظيم؛ يقتضي من طالبه ضحاياه المتعددة، وأوقاته الثمينة، وعنايته المركزة، وجهوده المستمرة؛ فلذلك لا تتحمل طبيعة العلم عجلة في أي أمر من الأمور سواء كانت دينية أو دنيوية، لأن العجلة ليست حلاً سليما لمشكلة واقعة في الحياة البشرية، ولن تحل بها أي مشكلة يواجهها الإنسان في أموره العادية وحاجياته اليومية.
ومن المؤسف أن هذا المرض العضال "العُجلة” قد ولّد كثيراً من المفاسد المتعدية في المجتمع الإسلامي، أصاب فيها عدد هائل من أبناء المسلمين؛ الذين صبغوا أنفسهم بصبغة دينية، وتلونوا بألوان ثقافية، فهم يزعمون أن الحرية حق لهم، فيفتون فتاوى عارية من الدلائل والبراهين الشرعية، و الضوابط و القوانين الدينية، و يجرأون على المسائل العظيمة التي سكت عنها كثير من علماء سلف الأمة وأئمتها.
ومع ذلك أن هؤلاء الظالمين المفسدين يزعمون أنهم يحسنون صنعاً، و هم – في الحقيقة – يستغرقون في الضلالة و العصيان، و قد ورد وعيد شديد في مثلهم :”إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”(٢).
فنظراً إلى هذه الحالة السيئة يجدر بالقول إن النصيحة أمر مطلوب، و شأن واجب؛ وهو لن يتحقق إلا بدعم من الأمراء الصالحين، و مساهمة العلماء الربانيين، وإعداد جماعة من الطلبة الذين يسقون من مناهل السلفية الجادة، و لتحقيق هذا الأمر الجليل لا بد من عزيمة سامية، وهمة عالية، وإرادة قوية كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:”أن النفس لها قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية؛ فلا بد لها من كمال القوتين لمعرفة الله وعبادته”(٣) وقال تلميذه الرشيد الإمام ابن القيم – رحمه الله – : "إن الكمال أن يكون الإنسان كاملا في نفسه، ومكملا لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان، والقوة العملية بعمل الصالحات…”(٤).
بناءً على ذلك حق على كل من يحاول الخوض في فن من الفنون، وعلم من العلوم أن يعرف مقدماته ومداخله التي تعينه على فهم مباحثه و فصوله، ومعرفة مساراته، تبين له مفاهيمه الكلية، ومسائله الأساسية، وتكشف له عن مدارسه والتيارات الأصيلة فيها، وتُعرّف له بالأدلة المعتمد عليها، وقد أشار إلى هذا الأمر المهم ابن العربي – رحمه الله – :”وحق على كل من يحاول الخوض في فن من العلوم إذا علم مقصوده منه، أن يحاول بدأ الإحاطة بسوابقه التي لا بد له منها في معرفته، وشروطه التي معونة عليه”(٥).
فيا من يقصد المعالي: عليك بالتأني؛ فلا تستعجل،”لإن الثمار لا تقطف من الشجرة إلا كانت يانعة”، فأقرأ أصول العلم ومبادئها، وانظر في مسائله الأصيلة والفرعية، وأتقن عليها كما أرشدنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه :”أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ”(٦)، قال – صلى الله عليه وسلم-: "التَّأنِّي من الله والعجلة من الشَّيطان”(٧).
فهذه ثلة من الإرشادات النبوية التي تدل على أهمية استمرارية العمل و دوامها؛ وهي – لاشك – تثمر نتيجة رائعة، و انتاجية عالية في كل مجال من مجالات العلمية والعملية، ولذلك نرى أن سلفنا الصالح قد اهتموا بهذا الجانب المهم اهتماماً بالغاً، فقال الإمام مالك – رحمه الله – :” إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن”(٨)، وقال الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله -:” ربما مكثت في المسألة ثلاث سنين قبل أن أعتقد فيها شيأ”(٩)، وقال الإمام المزني – رحمه الله -:” كنت في تأليف هذا الكتاب (المختصر) عشرين سنة، وألفته ثمان مرات وغيّرته، وكنت كلما أردت تأليفه أصوم قبله ثلاثة أيام، و أصلي كذا كذا ركعة”(١٠)
وكتب التاريخ وسير أعلام النبلاء حافلة بمثل هذه الأمثلة الرائعة؛ التي تحث الطالب على الصبر الجميل، والجهد الجهيد، والدوام المستمر في تحقيق أمنيته الجليلة، و تكوين شخصيته المتينة، فإليه عديد من الأمور النبيلة التي لا بد من الالتزام بها:
١- أن حصول العلم يكون على المنهج الصحيح.
٢- أن لا يحصل العلم إلا من صاحبه المتقن في أمره.
٣- أن الأمر يركز على ما هو مقصوده من العلم.
٤- أن لا يكتفى بالمقدمات والمبادئيات فقط، بل يهتم بالمسائل الأصيلة والفرعية أيضاً.
٥- أن تكون العزيمة عالية، والإرادة قوية لحصول العلم وإتقانه.
٦- – أن تكون المداومة في البحث والتحقيق.
٧- وجوب الالتزام بالصبر والتأني، وعدم الاستعجال للنتائج.
٨- وجوب التخطيط التعليمي، والتقييم العلمي الدقيق لتحقيق الأهداف المنشودة.
فهذه عدة أمور مهمة لتحصيل العلم التي تحقق المقصود العلمي، و المطلوب العملي بإذن الله تعالى.
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبلاً، و أن يوفقنا جميعاً لكل ما يحب ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(١) صحيح مسلم[2699].
(٢) صحيح البخاري[100]، وصحيح مسلم[2673].
(٣) مجموع الفتاوى:٩/١٣٦.
(٤) مفتاح دار السعادة:١/٥٦.
(٥) المحصول في أصول الفقه، ص:٢٨.
(٦) صحيح البخاري[6464] وصحيح مسلم[783].
(٧) سنن البيهقي [20767].
(٨) ترتيب المدارك:١/١٧٨.
(٩) مناقب الإمام أحمد بن حنبل، ص:٢٦٩.
(١٠) مناقب الشافعي:٢/٣٤٨.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of