الأرض كلها خارطة فيها طول وعرض، صعود وهبوط، علو وعمق، سفوح وجبال، أنهار ومحيطات، غابات وبراري إلا بقعة فيها تأنس إليها الأرواح وتشرئب إليها النفوس لتحتل موقعا جذريا في شرايين القلوب الطيبة أكثر منه على خطوط الكرة الأرضية. وهي بقعة فيها مولد الرسول ومهبط الوحي، وفيها مهجر النبي والمقر الأول للحكم الإسلامي. يتوجه المسلمون إليها في كل صلوة، ويأتونها للحج كل سنة. بدأ الإسلام فيها غريبا ضعيفا ثم أصبح فيها مألوفا قويا. وحدها الإسلام بعد أن كانت مفككة ومشتتة ومضطربة. كانت سيفا أخضع به المسلمون الأوائل أعناق الفرس المستكبرة وكانت مطرقة دقوا بها رؤوس الرومان الجبارة. كانت الحجر الأساسي للحكومة الإسلامية الأولى التي لا تزال مثالا أعلى للحكم الإسلامي الراشد العادل. انفجرت فيها عيون العلم والحكمة فشرب منها المختارون من الناس ورووا، ثم انتشروا في مشارق الأرض ومغاربها حاملين لواء العلم، والحكمة، والمعرفة، والدين، والثقافة، والفكر، والأخلاق، فملأوا الأرض أمنا وعدلا، تطورا وازدهارا، والفضل في كل ذلك يرجع إلى تلك البقعة من الأرض. ألا وهي البقعة التي تعرف الآن بالمملكة العربية السعودية.
الأقوام كلها تاريخ تمر بمراحل، ضعيفة حينا، وقوية حينا آخر، خطيرة في آن، وتافهة في آن آخر. وهذه البقعة أيضا مرت بمراحلها، فبعد أن كانت قوية وخطيرة منذ أواخر عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أواخر عهد الخلفاء الراشدين، أخذت مكانتها تضعف تدريجيا. وإن كان الضعف لم يكن شاملا لجميع الميادين أولا، ولكن انتقال مراكز الحكم منها بدأت عملية الضعف التي تضخمت مع مرور الأيام في العهدين الأموي والعباسي حتى وصلت إلى القرن الثامن عشر الميلادي في العهد العثماني مغلولة مقهورة مذللة مفككة متقطعة.
في تلك الحالة الأليمة، ظهرت الدولة السعودية الأولى سنة 1139 هـ / 1727م وقام تحالف وثيق بين أمير الدرعية محمد بن سعود والإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله الذي لا يزال يشكل أساسا من الأسس الفكرية للمملكة. كان ظهور الدولة السعودية كبزوغ الشمس المشرقة بعد ليل حالك طويل، ولكنها انتهت سنة 1819م / 1232 هـ على أيدي المناوئين والأعداء. ثم ظهرت الدولة السعودية الثانية سنة 1818 م ولكنها أيضا لم يكتب لها البقاء وانتهت سنة 1891 م.
في المرة الثالثة، ظهرت الدولة السعودية لتبقى و تزدهر. إنها بدأت حينما هزم الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود قوات آل رشيد في قصر المصمك و فتح الرياض. ونودي في الرياض "أن الحكم لله ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود”. وفي ذلك التاريخ، 5 شوال 1319هـ / 15 يناير 1902م، بدأت الدولة السعودية الثالثة. لم يتوقف المسير مع فتح الرياض التي لا تزال عاصمة المملكة العربية السعودية، بل تابع الملك عبد العزيز جهوده لتوحيد مناطق نجد والحجاز. و بعد إتمام العملية، سميت الدولة مملكة نجد والحجاز وملحقاتها ثم تم تحويل اسمها إلى المملكة العربية السعودية ابتداء من يوم الخميس 21 جمادى الأولى 1351 هـ الموافق لليوم 23 سبتمبر 1932م. ومن ثم تحتفل المملكة العربية السعودية باليوم الوطني في 23 سبتمبر كل عام.
وبهذه المناسبة في هذه السنة، نقدم أحلى التهاني إلى شعب المملكة العربية السعودية، وملكها خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبد العزيز، وولي عهدها الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، وأحباؤها، وأخلاؤها سائلين الله المولى عز وجل أن يديمها بالبقاء، والبركة، والمجد، والشرف، والعلو، والازدهار. و بهذه المناسبة نفسها، نهدي هذا الإصدار الخاص لمجلة دي فري لانسر في اللغتين العربية والأردية إلى الشعب السعودي والمجتمع العام من القراء كتذكار للحب العميق الذي يجمعنا عبر التاريخ.
هذه المناسبة تتكرر علينا كل سنة لتذكرنا بأن المملكة العربية السعودية مبنية على الأسس الإسلامية، وهي استمرار للحكم الإسلامي الأصيل، واسترداد لمجده العتيق. فالإسلام لحمتها، والإسلام سداها، ونحمد الله تعالى أن المملكة صامدة على قواعدها الإسلامية على الرغم من بعض التطورات الأخيرة التي لا تعد بالصلاح بل تتوعد بزيغ أضر على تلك البقعة نفسها مما هي على غيرها. فلا مجد إلا بالإسلام ولا تطور إلا به. ومن رأى غير ذلك وحاد عن الطريق المستقيم هلك. هذا ما هو مسطور في التاريخ بوضوح تام، فليتعظ به من يريد أن يفتح بوابة الفحشاء والمنكر في أية بقعة من الأرض وليتعظ به فاعله في الأراضي المقدسة أضعافا مضاعفة، فحتى الإرادة بالإلحاد فيها تجر العذاب الأليم من الله القهار الجبار المتكبر. ولدينا الثقة التامة بأن الشعب السعودي عامة وقيادته خاصة أهل لإصلاح ما زاغ أو كاد أن يزيغ، وإقامة ما اعوج أو كاد أن يعوج، وهم مراعون للحقيقة أن المملكة العربية السعودية ليست دولة عادية بل محط أنظار المسلمين في جميع أنحاء العالم، ومأمن إرثهم الديني والثقافي والتاريخي، وهويتهم بين الدول الأخرى.
و في الختام، نكرر التهنئة بمناسبة اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية حرسها الله ورعاها وأدامها، ونتمنى مستقبلا زاهرا لها وللأمة الإسلامية كلها، وندعو الله تبارك وتعالى أن يوفقنا الثبات والاستقامة على دين الإسلام، وينعم علينا بالأمن، والسلامة، والرخاء، والازدهار، إنه سميع مجيب قريب.