مذكراتي في السعودية

أبو عفاف عبدالوحيد التعليم والتربية

بداية الكلام
ذكرياتي في المملكة جميلة ورائعة وطويلة لا يمكن لي إحصاءها جميعها. وقد سجلت بعضها في سجل خاص مع تحديد الوقت والتاريخ لكنه – مع الأسف – فقدت ذلك السجل التاريخي، وقد بحثته كثيرا لكنني ما وجدته. وقد علق في ذهني بعضه الذي لا يمكن أن أنساه.
وقد حاولت وصف بعض الذكريات في أسلوبي الخاص معبرا عن شعوري وإحساسي تجاه تلك الذكريات. استهللت الكتابة بذكر الأحوال والأوصاف التي سبقت قبولي في الجامعة ثم يتبعه الشعور والأحاسيس التي انبعثت في نفسي بعد قبولي في الجامعة ثم عبرت عن مشاعري حول وصولي إليها وبداية الدراسة فيها ثم دخلت في صميم الذكريات من حج وعمرة وزيارة واستراحة ومشاركة في فعاليات متنوعة. كما أنني لم أتعرض بذكر كل ما هو صغيرة وكبيرة وذلك لقلة الوقت وانشغالي بكثير من الواجبات الدراسية اليومية.
ونظرا لأهمية هذا الموضوع استغللت هذه الفرصة لتقديم صورة رائعة عن بعض التجارب التي مرت بي خلال السنوات الخمس الماضية ولحفظ هذا السجل إحياء لذكرياتي.
وإليكم مفتاح هذه الذكريات. أرجو أن تكون ممتعة ومفيدا إن شاء الله .

حلم يتحقق
في ليلة مقمرة في ساحة بيتي، كنت أشاهد الكواكب المنثورة والمتلألئة، وكانت السماء صافية إذ لاحت ملامح طائرة في الأفق، بدأت أراقبها حتى دنت، وكأنها تطير فوق بيتي إذ سألت أمي هل هذه الطائرة الضخمة متجهة إلى السعودية؟ قالت لعلها هي، ودعت لي من الله سبحانه وتعالى أن يوفقني للدراسة في السعودية وأتشرف بزيارة الحرمين الشريفين أشرف وأقدس بقعة على وجه الأرض.
ركوب الطائرة كان حلمي منذ الصغر، وكلما تقدمت في الدراسة زاد شوقي وحناني إليها، وبعد أن أكملت دراستي الثانوية وحصلت على شهادتها قررت إرسال أوراقي إلى الجامعات السعودية، حصلت على عنوان البريد وبدأت إرسال الأوراق إلى جامعات سعودية. كانت فترة انتظار القبول شديدة علي كلما أتاني خبر عن إعلان أسماء المرشحين للدراسة في الجامعات السعودية، بدأ قلبي يخفق وكأنني لا أستطيع تحمل الخبر، وقد أرسلت الأوراق مرارا ولكن – للأسف – لم يتم ترشيحي لسنوات مع ذلك كنت قد قررت الاستمرار في إرسال الأوراق أترقب الخبر الذي يسرني.
سنة 2007م، و في يوم من الأيام – بعد ما صليت العصر -كنت أتجول في ميدان المدرسة، أستنشق الهواء النقي الصافي البارد المنبثق من بحر العرب، لا أدري بالجزم هل كنت على اتصال مع أحد أو كنت بانتظار الاتصال ببعض الزملاء إذ رن جوالي وبدون أن أنتبه للرقم قلت السلام عليكم فقال المتصل وعليكم السلام فكان الرد موحيا بالبشرى التي طالما سارعت أذني إلى استماعها والاستمتاع بها، فكان الأخ "شميم ” المتخرج في جامعة الملك سعود وصاحب سلسلة "تعلم اللغة العربية” بدأ يهنئني بالقبول للدراسة في الجامعة فشكرت الله شكرا عظيما وشكرت الأخ ووقعت ساجدا لله سبحانه على ما أتاح لي هذه الفرصة بمنّه وتوفيقه .
"نيودلهي ” عروس المدن الهندية وعاصمتها التي لها جذور تاريخية وغابرة، تربع على عرشها ملوك وأمراء، وشهدت تقلبات سياسية ودينية وعرقية عديدة إلا أنها اليوم ماضية على قدم وساق في سبيل التطور والتنمية. كنت على موعد للسفر إلى هذه المدينة الخضراء لإجراءات السفر. وكانت هذه هي أول مرة أتشرف بدخولي في سفارة المملكة العربية السعودية .
لم تكن الإجراءات سهلة لأن الأوراق الرسمية لم تكن جاهزة آنذاك، والتأشيرة لم تصل في موعدها المحدد، فانتظرنا أسبوعين أو أكثر حتى عدنا إلى بيوتنا بسبب تأخير الإجراءات، وبعد شهر، وفي بداية شهر رمضان عدنا مرة أخرى إلى دلهي حيث تمت الإجراءات اللازمة.
المطار والطائرة
هذه أول مرة أدخل في المطار وأشاهده عن كثب، لم نكن متعودين على الإجراءات الروتينية التي تحصل في المطار فكانت هذه تجربة فريدة أثارت اهتمامي.
ها أنا أدخل في الطائرة السعودية العملاقة، وبدأ الحلم يتحقق وأنا في دهشة واستغراب. تعودنا على الدخول في الباصات والقطارات فتكون الأبواب والمداخل فيها معروفة، أما الطائرة فكان مدخلها من نوع فريد. الممر المغطى الموصل من المطار إلى الطائرة . كنت أتصور الطائرات من نوع آخر كما رأيتها في الكتب والمعارض، ولكن الحقيقة كانت أبعد مما كنت أتصور عنها. طائرة عملاقة منسّقة ومرتبة ترتيبا خياليا. مريحة من داخلها للمسافرين بكافة وسائلها. جلسنا في مقاعدنا وبدأنا ننتظر إقلاع الطائرة، وبعد دقائق أعلن الطيار عن إقلاعها حيث أخبر الجميع بربط الأحزمة و ما إلى ذلك من إرشادات السلامة .
أقلعت الطائرة وبدأ القلب يخفق خفقا ويتقلب تقلبا وكأنه يطير وكأنني لم أستطع ضبطه بضع دقائق حتى علت الطائرة واستوت في الفضاء، بدأ المضيفون يوزعون الوجبات الخفيفة وكانت من أحسن الأنواع. واستمرت الرحلة لأربع ساعات وقبل الهبوط بنصف ساعة تقريبا بدأ الإعلان عن ربط الأحزمة والاستعداد للهبوط. ولقد كنا سمعنا من قبل أن هبوط الطائرات هو الأخطر في عمليات الطيران، فدعونا الله للسلامة والأمان وقت الهبوط .
وبدأت الطائرة بالهبوط كان الجميع قلقين، إذ هبطت الطائرة على مطار الملك خالد الدولي بالأمن والسلام وكان الجميع مسرورين ومتهللين. ما أحسن هذا المطار وما أروع منظره البهيج. والآن نخطو أولى الخطوات على أرض السعودية وقلوبنا كانت مليئة بالفرح والسرور لا يمكن أن نعبر عنه في كلماتنا القصيرة العاجزة عن استيعاب تلك الأحوال الممتعة.
تمت الإجراءات وخرجنا من المطار، ويا للهول، كان الجو الحار الجاف في استقبالنا، لم نعد نتحمل مثل هذا الحر الشديد في بلداننا فكانت هذه التجربة المريرة، وبعد بضع دقائق استأجرنا سيارة وتوجهنا إلى جامعة الملك سعود التي كانت تهفو إليها قلوبنا، تتطلع إليها أنظارنا وتتوق إليها أفكارنا.
مدينة الرياض والجامعة
الشوارع النظيفة الواسعة لفتت انتباهنا، والشجيرات والنخيل على أطراف الشوارع تشدنا إليها. وكنا محظوظين بما نشاهد من مناظر خلابة ومباني عالية ولافتات جميلة وما إلى ذلك من وسائل الترفيه والتسلية. بعد نصف ساعة دخلنا في ساحة الجامعة، ساحة شاسعة وواسعة، ما رأيت جامعة بهذا الحجم في طولها ووسعتها وإمكانياتها، ولم أكن أتخيل الجامعة بهذا العدد من الطلاب والأساتذة والموظفين وغيرهم.
توقفت السيارة أمام البوابة الرئيسية للسكن. سلمنا على رجل الأمن فرد علينا السلام، وطلب منا الإفصاح عن التأشيرة والجوازات، وبعد التفتيش أخذ بنا إلى مبنى 25حيث وَضعنا أمتعنا وتنفسنا تنفس الصعداء.
كان المشرف في مبنى 25 متواضعا ومتعاونا حيث استقبلنا بابتسامة وسلام، وتعرف علينا ثم وفر لنا بعض الحوائج للسكن المؤقت. كنت غريبا في هذا الجو، لم أكن أعرف أحدا ولم أكن أجيد اللغة العربية، ولكن الإخوة الهنود حينما سمعوا عن وصول الدفعة الأولى من طلاب الهند إلى السكن سارعوا إلينا، لقيناهم وتعرفنا عليهم ثم أخذوا بنا إلى مبانيهم. الأخ "عبد الرحمن محمد يحيى” أول من أتشرف بدخولي في غرفته. وهو طالب خلوق متواضع محب مؤثر وموجه صادق. بعد أن تحاورنا قليلا تعرفنا بعضنا على بعض. بدأت الصداقة الحميمة المخلصة منذ ذلك الوقت إلى الآن، أدعو الله سبحانه تعالى أن يقوي رابطتنا وأخوتنا إلى الأبد.
هذه هي التجربة الأولى الفريدة من نوعها أتعايشها في خيالي، أنظر إلى المباني والساحات الواسعة والمناطق الخضراء حولنا والمكيفات والتجهيزات وكل ما يخدمك للتكيف في البيئة التعليمية الملائمة للطلاب. وبعد ما استقر قلبي وحصلت على زميل مخلص أردت الاتصال بأهلي حتى أخبرهم بوصولي إلى الجامعة بسلام.
كانت أمي في انتظار الاتصال وكان الأهل جميعهم قلقين حتى اتصلت بهم وأخبرتهم عن وصولي إلى السعودية بسلام. فقد عم الفرح جميع أهل البيت وتنفسوا تنفس الصعداء وقد انهمرت عيونهم بالدموع فرحا وسرورا فكان المنظر رهيبا ومفرحا.
استقبلتنا إدارة المنح بحفاوة ومحبة، وأرشدتنا إلى بعض الإجراءات اللازمة. وهنا يجدر بالذكر بأننا كنا قد تعبنا كثيرا في الإجراءات في ذلك الوقت. كنا ننتقل حوالي أسبوعين أو أكثر من مكتب إلى آخر حتى تمت الإجراءات وقبلت بمعهد اللغة العربية بعد اختبار تحديد المستوى.
تجربة دراسية فريدة
القاعات الدراسية الواسعة المجهزة بأحدث الوسائل التعليمية، والطلاب من جنسيات مختلفة والأساتذة من مختلف دول العالم. أشاهد أول مرة في حياتي هذا المنظر البانورامي المهيب والمباني الشامخة، والطرق المعبدة والممرات الواسعة المرصعة بالزهور والإنارات.
في البداية كان التواصل مع الطلاب من الجنسيات المختلفة من أهم العوائق التي واجهت حيث إن أغلبهم لا يكاد يعبر عن نفسه بأسلوب جيد، ومن هنا برز دور المعهد، وبعد ذلك جاء دور المعلم لتعليم اللغة العربية بطريقة جديدة وسهلة، وبكل أخوة وأبوة وحب قائم على الاحترام المتبادل، وجو مناسب لطرح الأسئلة بكل حرية، وفرصة للنقاش وتقديم الاقتراحات حيث إن الجميع لديهم فرصة لتقديم آرائهم و أفكارهم، وكلهم يرون من أ نفسهم شخصية تصغى إليها وإنسان يحترم وطالب يتطلع، كما أن الأساتذة لم يألو جهدا في التعليم والتربية حيث إن قلوبهم مفتوحة دائما لاستقبال الاقتراحات والاستماع إلى الطلاب وتصحيح الأخطاء الصادرة منهم وتقديم العون التربوي والنفسي بكل ما يتوفر لديهم من إمكانيات .
ومما ساعدني كثيرا على اكتساب المهارة في اللغة العربية هو النوع الفريد من أساليب التعليم في القاعات الدراسية حيث إن أساتذة جميع المواد الدراسية كانوا متحمسين في موادهم. كان أستاذ مادة ” المحادثة ” يقسم الطلاب فريقين ويختار لهم الموضوع المناسب ثم يترك المجال للنقاش بين فريقين. و بعد أن دخل الفريقان في النقاش وبدأ الأستاذ يشرف عليهم، يحتدم النقاش ويستحر حتى يبلغ ذروته ويكاد يحصل الصراع اللساني بينهما، ومن هنا يأتي دور المعلم للتدخل لإخماد نيران الحماس المشتعل بينهما، وبعد نصح الأستاذ يعود التراحم والتآخي إلى ما كان عليه قبيل النقاش .
الحج والعمرة والزيارة
من ذا الذي لا يريد زيارة الحرمين الشريفين؟ ومن ذا الذي لا يريد الحج والعمرة ؟ من ذا الذي لا يريد أن يستمتع بأجواء روحانية وإيمانية ؟ من ذا الذي لا يريد أن يتشرف برؤية الكعبة ؟ المسلمون من جميع بقاع العالم تهفو قلوبهم إلى بيت الله الحرام، ولذا يجتهدون ويجمعون المال ويستعدون للسفر تجاهه.
أحببت تعلم اللغة العربية لغة القرآن والحديث، ولكنني تشوقت أيضا إلى أداء الحج والعمرة، وكنت قد دعوت الله مرارا بالتوفيق والسداد لذلك، كما أن أمي لا يخلو دعاءها عنه .
عم الفرح كل من سمع أن إدارة المنح تعتزم تحجيج الطلبة المستجدين هذا العام، فعلقت قائمة المرشحين وأعلن عن موعد الرحلة ومن حسن الحظ كنت منهم. وبهذه المناسبة أريد أن أشكرا لله تعالى أولا ثم "إدارة المنح ورعاية الطلاب الوافدين” ومسئوليها الذين يقومون بدور بارز في تحقيق الهدف السامي النبيل للذين جاءوا من بلدان مختلفة، كما أنهم لا يألون جهدا في توفير كآفة التسهيلات لأداء الحج والعمرة، وهم يستحقون منا كل التقدير والاحترام.
بدأ السفر مساء بالحافلة وهي كانت من الطراز الأول من الراحة والترفيه. توجهت إلى محطة النقل الجماعي ثم إلى طريق مكة المكرمة طريق واسعة وسريعة، وكأنني شاهدت بعض السيارات تكاد تطير من سرعة جنونية، لا أكاد أتيقن بما شاهدت من سرعة، لكن سائق الباص بحمد الله كان متمكنا وهادئا، قاد الباص بالطمأنينة والراحة. تركنا الرياض وراءنا أميالا وبدأ الإخوة المسؤولون بالسفر يتحركون من مقاعدهم، يعلنون عن البرامج الترفيهية والمسابقات التي سوف تقام أثناء السفر، بل قد تطوع البعض بإلقاء كلمات النصح والتوجيه، كما أن البعض بين مناسك الحج والعمرة وآداب السفر.
الساعة الحادية عشرة ليلا، بدأ النعاس يسيطر على الطلاب أغلبهم، وهم يترنحون يمينا وشمالا وكأنه هو سيد الموقف، ولكن الجوع والعطش لم يكونا أقل تأثيرا علينا من ذلك، حتى إذا غلب الجوع على النوم بدأ يطلب بعض إخوتنا بالمشروبات، وكأن المشرفين كانوا في انتظار فقالوا لبيك ومرحبا بكم، توقف الباص عند استراحة بعيدا عن غوغاء المدينة وصخبها في جو هادئ وبارد وكان المنظر بهيجا. دخلنا المطعم وأخذنا الوجبات فأكلنا حتى شبعنا وتجولنا قليلا في محيط الاستراحة ثم عدنا إلى الباص.
الساعة اثنتا عشرة والنصف ليلا، تحرك الباص نحو الكعبة وتسرب النوم إلى جميع سكان الباص وغامرهم، الصمت يهيمن على الجميع، سوى السائق، فكأنه يبحث شيئا في ظلمات الليل الأدهم. وهكذا استمر الباص في سيره أربع ساعات حتى وصلنا إلى "السيل الكبير” حيث يحرم الحجاج ويلبسون الإحرام، فنزلنا من الباص وكان الوقت فجرا وكان المكان مزدحما بالناس، توضأنا وأحرمنا وصلينا ركعتين وكان البرد شديدا، بدأ يتسلل إلى أجسامنا حتى تغلّب علينا فتوجهنا إلى الباص.
والطرق كلها كانت مليئة بالسيارات والحافلات ولا تسمح بالتقدم إلا بعد التفتيش، وقد أخذ منا هذا جزءا كبيرا من الوقت، انتظرنا كثيرا حتى تعبنا. وما زالت الطرق مزدحمة، صفوف السيارات كأنها لا تكاد تنتهي ولا تنتهي معاناة الانتظار، وقد زاد اشتياقنا إلى رؤية الكعبة .
الساعة الحادية عشرة نهارا كنا متوجهين إلى بيت الله الحرام، بدأت الدموع تنهمر فرحا وسرورا إذ وقعت أنظارنا على الحرم، – أشرف وأقدس بقعة في هذا الكون- فلا تسأل عن فرحي وسروري ولا أكاد أستطيع أن أعبره في كلماتي العاجزة القاصرة عن بيانه، وحقا لا أحد يستطيع تعبيره وبيانه في كلامه المحدود العاجز .
فالشكر لله عز وجل على منّه وكرمه بأن أوصلنا إلى هذا المكان المحبوب المرغوب فيه الذي كان يتجول في أذهاننا طوال السفر وكان القلب مشتاقا إليه. آنذاك، بيت الله الحرام كان مزدحما بالحجاج والزوار والمصلين، لم نجد فرصة لأداء العمرة في ذلك الوقت وأعلن المشرف بالتوجه نحو "منى” مباشرة.
كانت المخيمات قد نصبت على أعلى الجبال في منى، وكان بعض الإخوة في استقبالنا، وقف الباص عند المخيمات، نزلنا منه ثم استمعنا إلى إرشادات وتوجيهات المشرف، وجدنا مقاعدنا واسترحنا قليلا حتى ذهب عنا تعب السفر.
وفي اليوم التالي توجهنا إلى "عرفة” حيث مكثنا حتى غروب الشمس. لم أكن رأيت قط ازدحاما مثل ما رأيت حين الخروج من عرفة. كنت متعجبا من ذلك المنظر العجيب. وصلنا مزدلفة في منتصف الليل، صلينا صلاة الجمع واسترحنا قليلا. طلع الفجر وبدأ الناس يتوجهون إلى الجمرات. كان المشرف يعلمنا مناسك الحج ويوجهنا إلى ما ينبغي فعله في تلك الفترة الخاصة، وصلنا إلى الجمرات ونحن مرهقين ومنهكين. التعب والملل كانا يسيطران على الجميع، لكن التلبية كانت تنفخ في أجسامنا روحا جديدا، نسينا كل شيء إلا الحج. رمينا الجمرات وعدنا إلى مخيماتنا.
تناولنا المشروبات وأكلنا بعض الوجبات اللذيذة واسترخينا للنوم حتى العصر، إذ أذن المؤذن لصلاة العصر صلينا واجتمعنا لبرامج قصيرة مشوقة. كانت هذه هي المرة الأولى بأن شاركت في مثل هذا البرنامج. وطلب المدير من جميع الطلاب أن يتحدثوا عن بلدانهم وحضارتهم، رأيت من هم كبار السن وكثير التجارب، وقضوا في الجامعة مدة طويلة، ولكن لم يتحركوا من مقاعدهم، فقمت بسم الله وألقيت بعض الكلمات التي كانت تدور في ذهني وعلى وجه الخصوص ذكرت "تاج محل” – أعجوبة من العجائب السبع في العالم – وشيئا عن خلفيته، سُرّ المدير وأعطاني بعض الجوائز سررت بها سرورا، ووجدت في ذلك تشجيعا وتحفيزا في نفسي فشاركت في البرامج الأخرى وحصلت على الجوائز الأخرى، فكانت هذه تجربة رائعة لم أنس ولن أنساها طيلة حياتي. بقينا في "منى” ثلاثة أيام وأكملنا خلالها جميع مناسك الحج. و في الثاني عشر من ذي الحجة ذهبنا لزيارة بيت الله الحرام وطواف الوداع، وقد استمتعنا بذلك الجو الروحاني والرباني كثيرا، لا يريد القلب أن ينصرف من ذلك المنظر البهيج حيث الناس من جميع أنحاء العالم يأتون و يكبرون ويلبون ويطوفون ويسعدون ويدعون. لا يلتفت أحد إلى أحد إلا الله العظيم رب العرش الكريم سبحانه تعالى. فالشكر كله لله رب العالمين الذي وفّقنا لهذا الخير والسعادة. تم جميع مناسك الحج وعدنا إلى الجامعة وبدأت القاعات الدراسية تنبض بالحياة.
رحلة إلى المدينة المنورة
مدينة الرسول أجمل وأقدس مدينة في العالم، كلنا يشتاق إلى لقيآها وزيارتها، وكلنا يدبر ويفكر في الفرصة المتاحة لذلك. في نهاية الفصل الدراسي الأول طلع الإعلان بأن إدارة المنح تعتزم إقامة رحلة إلى المدينة المنورة، عم الفرح جميع الطلاب المستجدين. سجلنا أسمائنا وبدأنا نترقب الموعد المحدد. كان السفر ممتعا حيث متعنا أنفسنا بزيارة المسجد النبوي، وتشرفنا بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، زرنا البقيع حيث سلمنا على أهله وعاد بنا ذلك المنظر إلي الماضي البعيد، ذكرنا التاريخ وعهد الرسول وكل ما حصل في ذلك الزمن المبارك. زرنا "مسجد القبلتين” و”مسجد قباء”. ذهبنا إلى جبل "أحد” ورأينا مقبرة سيد الشهداء عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة – رضي الله عنه وأسكنه فسيح جناته – وكان المشرف قد ألقى خطبة رائعة صقلت قلوبنا، كأن الماضي المشرق لأجدادنا وأشرافنا يدور حول أعيننا، وأثناء خطبته بين لنا كل ما حدث في غزوة أحد، فكان ذلك تجربة رائعة. تجولنا في أنحاء المدينة المنورة حتى ذهبنا إلى الجامعة الإسلامية ولقينا عددا من الطلاب والأصدقاء والزملاء هناك. حقا هذه هي الجامعة التي أخرجت آلافا من الدعاة والعلماء من مختلف دول العالم الذين هم منتشرون في الدنيا كلها، حاملين لواء الإسلام، مبلغين رسالة التوحيد، وداعين الناس إلى الله وحده الذي لا رب سواه، مخرجين الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجور والظلم والضلالة إلى الهداية والحق والعدل بعد ما نهلوا من منهلها العذب الصافي الكافي الوافي، وتخصصوا في العلوم الدينية والشرعية.
رحلة إلى المنطقة الشرقية
كان الأستاذ "التويم” محاطا بالطلاب وهو يستفسر منهم حول خطة خططها بنفسه فكان الجواب بين القبول والرد. كانت الخطة حول الرحلة إلى المنطقة الشرقية حيث كان على مشاركيها دفع بعض الرسوم للسفر مع أن المكافأة أيضا كانت متوقفة منذ عدة أشهر؛ لذا أكثرهم رفضوا المشاركة، لكن الأستاذ بذل جهده فخفف علينا حتى علق الإعلان بأن الرحلة تكون مجانية، فتهلل الجميع سرورا وبدأت الرحلة.
كانت هذه الرحلة رحلة سياحية بامتياز. خلال السنوات الخمس الماضية شاركت في كثير من الرحلات لكن هذه كانت أمتع وأفضل من غيرها من الرحلات. بدأ السير ظهرا ووصلنا قبيل المغرب إلى محطتنا الأخيرة. استرحنا قليلا في "بيت الشباب”. كان أفضل من الفنادق العامة راحة وتجهيزا وتأثيثا حيث جميع الوسائل كانت متوفرة وموجودة. أخذنا قسطا من النوم ثم استيقظنا وصلينا الفجر. المشرف كان خلوقا يتعامل مع الطلاب معاملة الأخ بالأخ والمساواة. أخبرنا عن البرامج المقررة، وفي الموعد المحدد خرجنا إلى مدينة الملك فهد الترفيهية الساحلية، وجدنا فيها كل ما يحتاج الإنسان في الترويح عن نفسه من استحمام وسباحة ولعبة وزيارة إلى البواخر والمطاعم الموجودة فيها. ثم أخذوا بنا إلى ساحل نصف القمر – من أجمل الشواطئ التي شاهدتها في حياتي القصيرة – وهو يبدوا جميلا جدا. كانت الساعة العاشرة ليلا، وضوء القمر والإنارات منتشرة على طول الشاطئ، مكثنا هناك ساعات وتعشينا ولعبنا واغتسلنا واسترخينا وتجولنا وصلينا ثم رجعنا إلى مقرنا الساعة الواحدة صباحا. فيا للمنظر البهيج الرائع الذي لن أنساه أبدا.
وفي اليوم التالي صباحا قرر المشرف الزيارة إلى "جسر الملك فهد ” جسر المحبة بين البلدين السعودية والبحرين. طالما أردت رؤيته ولم أقدر، وها اليوم تحقق حلمي، مررنا فوق الجسر الجميل الطويل الممتد على البحر حوالي خمس وعشرين كيلو مترا. وهذا الجسر يربط البحرين بالمنطقة الشرقية. في وسط البحر وفي منتصف طول الجسر وجدنا مكانا مخصصا للسياحة والترفيه، وجدنا هنا فندقا جميلا طويلا يطل على الجزيرة، صعدنا الفندق حتى الطابق الأخير وأشرفنا على البحر؛ فكان البحر جزيرة ساكنة هادئة، ومن جانب آخر شاهدنا طوابير طويلة من السيارات تعبر نقطة التفتيش. وعرفنا أن آلافا من السعوديين يعبرون الجسر يوميا للتجارة والتسويق والسياحة.
كان هذا اليوم رائعا وجميلا وقد سطر في ذهني مناظر خلابة يحفظها طوال الدهر. كما أننا زرنا "سايتكس” معهد العلوم والتقنية، وقد شاهدنا عجائب متنوعة وصورا نادرة من عجائب العلوم والتقنية، وشاهدنا فيلما حول موضوع "أول رجل وصل إلى قمة هملايا”، وكان الفيلم رائعا جدا كما أنني لم أشاهد قط فيلما في مثل هذه الشاشة العجيبة السحرية التي كأنها تدور بنا مع حركات الشاشة.
بقينا هناك ثلاثة أيام. وقد ازدادت هذه الزيارة تميزا وشرفا بأن الأستاذ "التويم” شاركنا في كثير من الفعاليات والزيارات وبقي معنا كزميل يراعينا ويوجهنا ويرشدنا إلى كل ما يفيد و ينفع.
وصلنا إلى الجامعة لكن قلوبنا كانت وما زالت مرتبطة ومعلقة بتلك المناظر الخلابة التي مرت بنا. كانت هذه الرحلة بمثابة رحلة خيالية تبقى في الأذهان. أحب الجميع وفرح بذلك وحفظها في ذاكرته إلى الأبد.
رحلات واستراحات
إن المملكة العربية السعودية لها وجهات سياحية متعددة، وتتمتع بإمكانات هائلة لجذب الزوار والسياحين من كل أنحاء العالم. وهي غنية بالمعالم الأثرية التاريخية التي لها ارتباط وثيق بالتاريخ الإسلامي وبالقبائل العربية الغابرة في التاريخ، وكما أنها تتمتع بالشوارع الجميلة والمباني الشامخة والأسواق المفتوحة.
لقد زرت معالم كثيرة من مدينة الرياض مثل متحف الملك عبد العزيز التاريخي، و برج المملكة، وصقر الجزيرة للطيران وغيرها، ولكن "الجنادرية” كانت أحسنها وأجملها بما أنني أفضل الحياة الفطرية والثقافات والحضارة القديمة بالإضافة إلى المصنوعات اليدوية التي وجدتها تحت قبة الجنادرية وهي من الأماكن المفضلة إلي حيث زرتها أربع مرات.
الجنادرية تحمل في طياتها عبق الماضي ومسك الحاضر. تحتوي على أجنحة متعددة على طولها وعرضها. كل جناح يمثل ثقافة منطقته. وهناك أجنحة للوزارات تقدم معلومات قيمة حول خدماتها المقدمة للمواطنين والمقيمين. تمر بين الأجنحة وكأنك في عالم الأحلام تجد كل شيء ينتمي إلى حضارة المملكة وثقافتها. وكانّ الصورة الأصلية للمملكة مفتوحة أمام الزوار. لا يمل أحد من مشاهدتها. وكيف يمكن ذلك وهو يحصل الهدايا من أغلب الأجنحة. الجنادرية هي من أبرز الملامح السعودية الشامخة المتجذرة في التاريخ .
ومن الأشياء الملفتة للنظر في السعودية وجود استراحات للأغراض المتعددة. نعم السعودية تفقد غالبا المناظر الخضراء الطبيعية، والأنهار الجارية، والهواء الرطب ولكن الحكومة لم يأل جهدا في تصميم المدن بالحدائق الجميلة والشجيرات الخضراء، إضافة إلى ذلك توفير استراحات جميلة ممتعة وخضراء ونظيفة في كل مناطق المملكة .
المملكة الفريدة
تنفرد المملكة بتطبيق الشريعة الإسلامية من سائر بلدان العالم حيث الكتاب والسنة هما المصدران الأساسيان للحكم والتشريع، ولديها نخبة من العلماء وهيئة من كبار العلماء الذين يتولون أمور الفتاوى والإفتاء. وأن الحكومة الرشيدة تقدم كل ما لديها من إمكانيات لخدمة الإسلام والمسلمين، وأن الحرمين الشريفين شاهدان على ذلك. لم أسمع عن أي دولة في العالم تقدم بهذا القدر والكمية منحة دراسية للطلاب المسلمين من أنحاء العالم للدراسات الإسلامية؛ لكن المملكة هي الوحيدة في هذا المضمار. آلاف من أبناء المسلمين يتعلمون الإسلام ويتخصصون في علوم القرآن والسنة والفقه والتاريخ وغيرها من العلوم على نفقة الحكومة السعودية حيث توفر لهم كل ما يحتاجون في سبيل التحصيل الدراسي .
أدعو الله تعالى أن تبقى المملكة على نهجها الإسلامي الفريد وتتمسك بالتوحيد وتطبق الشريعة الإسلامية في حياة أبنائها إلى أبد الدهر.

مع الطلاب من الجنسيات المختلفة :
من المستحيل أن تلتقي أبناء المسلمين من مختلف دول العالم وأنت في بلدك. وهذا يتحقق هنا في السعودية. بغض النظر عن اللون والجنس والبلد، كل يتعرف على الآخر وبعضهم يرتبط ببعض بالأخوة الإسلامية، وينشأ بينهم العلاقة الودية التي لا يمكن أن تتصورها وأنت في بلدك. تتعرف على مختلف الثقافات والحضارات من قارة آسيا إلى قارة أفريقيا ومن قارة أوربا إلى قارة أمريكا. تتعدد اللغات واللهجات لكن اللغة العربية لغة القرآن تجمعهم وتوحدهم وتؤهلهم للتواصل فيما بينهم، وهذا فضل كبير يرجع إلى الله سبحانه وتعالى ثم إلى قيادة المملكة العربية السعودية ومن ثم إدارة المنح ورعاية الطلاب الوافدين ممثلة بجامعة الملك سعود .
نهاية المطاف
إذا كنت تريد أن تتعلم أصل الإسلام وصفوه، فعليك بالمملكة العربية السعودية. ولا شك أن راية التوحيد ترفرف في كل أنحاء المملكة وأن الدعاة يجولون في دول العالم حاملين لواء التوحيد لنشر الإسلام، وذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء. لقد قويت عقيدة التوحيد وتجذرت في أعماق قلبي في هذا البلد المبارك كما أنني تعلمت اللغة العربية واكتسبت مهارة المحادثة والكتابة إلى حد كبير، ولا يمكن أن أعبر عن شعوري بعد ما قويت صلاتي وارتباطي باللغة العربية لغة القرآن .
لقد منحتني هذه الدولة فرصة التعليم، وربتني هذه الجامعة العزيزة في أحضانها، وصقلت مهارتي في معهد اللغة العربية، وحددت كليتي مسار تخصصي، وقامت إدارة المنح برعايتي وتوجيهي وإرشادي إلى كل ما ساعدني في بناء شخصيتي، واكتساب المهارات في الدين واللغة التي من أجلها بقيت طيلة هذه الأعوام في المملكة العربية السعودية في أحضان جامعة الملك سعود .
أشكر القيادة الرشيدة في هذا البلد وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين، كما أتقدم بخالص الشكر لهذه الجامعة العريقة العزيزة وعلى وجه الخصوص إدارة المنح ورعاية الطلاب الوافدين التي تبذل كل ما لديها من إمكانيات لخدمة الطلاب وراحتهم.
والسلام

4
Leave a Reply

avatar
3000
4 Comment threads
0 Thread replies
0 Followers
 
Most reacted comment
Hottest comment thread
4 Comment authors
عبد العزيز بن محمد يوسف السلفيعامر انصاریAbdul LateefNaseem Akhtar Recent comment authors
  Subscribe  
newest oldest most voted
Notify of
Naseem Akhtar
Guest
Naseem Akhtar
ماشاءاللہ أحسن الكاتب وأجاد وكأن القارئ يدور معه حيث دار
Abdul Lateef
Guest
Abdul Lateef
استشعرت كأني معه، مقال يعطي الاخبار من جهة ومن جهة اخرى يدافع عن المملكة حقا.
عامر انصاری
Guest
عامر انصاری
رائع اخي الغالي العزيز

طبتم وطابت اناملكم

عبد العزيز بن محمد يوسف السلفي
Guest
عبد العزيز بن محمد يوسف السلفي
بارك الله فيكم