خطبة مولانا أبو الكلام آزاد بمناسبة استقلال الهند

عبدالمبين الندوي الخطب

[هذه خطبةٌ بليغةٌ ومؤثرةٌ تفوق الوصفَ والبيانَ، ألقاها إمامُ الهند وأعجوبةُ الدهر وبيهقيُّ الزمان العبقريُّ النِّحريرُ مولانا أبو الكلام آزاد (1888م – 1958م) من سلالم المسجد الجامع الشهيـر، في دلهي القديمة، يوم استقلال الهند عام: 1947م، عندما بدأ الناس يهاجرون إلى باكستان. والخطبة قد نقلها فضيلة الشيخ عبد المبين الندوي الأستاذ بجامعة رياض العلوم بدلهي، إلى العربية، وهو معروف في الأوساط العلمية لجهوده في التدريس والدعوة والصِّحافة والتأليف والتحرير، نُشـر نصُّ الخطبةِ العربيُّ قديمًا في مجلة "ثَقـافة الهند”، وحظي بالقبول، فنظرًا للأهَمِّية وتعميمًا للفائدة ولاسِيّما لإخواننا العرب نُعيد نشـره في "الأقلام الحرة” على أمر من متـرجمه الفاضل، فجزاه الله خيـرًا وبارك في عمره. (المباركفوري)].

تعريب: عبد المبين الندوي الأستاذ بـجامعة رياض العلوم، دلهي.

أيها الأعزة!
أنتم تعرفون ما الذي ساقني إلى هنا ـ وليس لدي شيء غريب ـ إلى الاجتماع في هذا الجامع التذكاري لشاه جهان – الأمبـراطور المغول -؛ فإني خاطبتكم من هنا في حين مر عليه صـروف من الدهر وتقلبات الليالي والنهار، حينما كانت على وجوهكم آثار الطمأنينة بدلًا عن الاضمحلال، وكانت قلوبكم ذات ثقة بدل الشك والريب، وحين أرى اليوم اضطراب وجوهكم وخرابات قلوبكم، أتذكر فجاءة تلك القصص المسنية التي سلفت قبل عدة سنوات أتذكرتم؟ إني دعوتكم فقطعتم لساني، أخذت القلم فبتَـرْتُم يدي، أردت المشي فكسـرتم رجلي، أردت أن أتقلب فأنهكتم حقوتي … حتى زجرتكم في عهد شباب السياسة المريرة التي مرت قبل سبع سنوات كما نبهتكم من خطراتها في شارعها العام، لكنكم استوحشتم من ندائي ليس فحسب، بل جددتم سائر السنن للغفلة ونكرانها؛ فكانت نتيجتها معلومة بأن أحدقتْ بكم اليومَ الأخطارُ التي باعدتكم شبهاتها عن الصـراط المستقيم.
والواقع إنني جمود أو هتاف في الصحراء الذي قد قضى في وطنه حياة النفي و الشـرد، ولا يعني ذلك أنَّ المكانة التي احتللتها لنفسي في أول يوم ثم قُطعت ريشتي و أجنحتي أولم يبقَ مكان لوكري؛ بل أقول عما في نفسـي: إنَّ ذيلي يشكو اعتداءات أياديكم، إن شعوري لجريحٌ وقلبي متألم محزونٌ، تفكروا قليلًا، أي انتهجتموه ؟ وأين وصلتم و أين أنتم واقفون الآن ؟ أليست هذه حياة خوف ورعب؟ أليس وقع الخلل والخطر في شعوركم ؟ وهذا ما كسبتُم لأنفسكم، وهذا جزاء أعمالِكم.
إنه لم تمض إلا فتـرة يسيرة حين قلت لكم إنّ تصور الشعبين يكون بمثابة مرض الموت للحياة المعنوية فاتركوه، إنَّ هذا العماد التي اتَّكأتُم عليها تتكسَّـر وتتهدَّم بسـرعة مذهلة، ولكنكم أهملتم وظللتم في هذا الوضع، ولم تفكروا أن الوقت وسيره السريع لا يمكن أن يغيـرا ضابطهما لكم المرور، وما هدأ سيـر الوقت ومروره، أنتم ترون أن العماد التي اتَّكأتم عليها ووثقتم بها فإنها تركتكم حيارى مشعرة بأن ليس لكم كفيلًا ولا وارثًا وسلمتكم إلى القدر الذي يختلف مفهومه عن المفهوم الذي اصطنعت لغة أذهانكم – يعني عندهم كان معنى القدر نور الهمة وفقدانها.
وقد قلب رغم رضاكم سلطان الحكم الذي بسطه الإنجليز وتلك الأصنام التي اتخذتموها للهداية لأنفسكم، إنها أيضا خدعتكم مع أنكم حسبتم أن ذاك البساط قد يدوم ولكم حياة في عبادة تلك الأصنام. وإني لا أريد عن أفتش عن جروحكم، ولا أريد عن أضيف مزيدًا من إضطرابكم، ولكن لو ترجعون إلى الماضي قليلًا لتنحل لكم كثيـر من العقود والسـرائر.
كان وقتًا ناديتكم لاستقلال البلاد مشعرًا بمسؤوليتكم قائلًا: كل ما يحدث فلا يسع لقوم أن يمنعه بتعسه ونحسه وقد قدر الله الثورة السياسية للهند، وستنفك أغلالها التعبدية وربقتها الاستعباد من هواء الحرية لقرن العشـرين فإن تهربتم وأغمضتم جنبًا بجنب عن التخطي والتساير مع الوقت والزمان وجعلتم التعطل شعارًا لحياتكم الحالية، فيكتب مؤرخ المستقبل بأنّ طائفتكم التي كانت مشتملة على سبعة عشـرات ملائين غول إنسان سلكت المسلك الذي كان طريقا للأقوام المندثرة على وجه الأرض ضمن حرية البلاد، رأية الهند ترفرف اليوم بكل أبهة وبهجة، هذا هو العلم الذي كان يستهزأ بارتفاعه قهقهة وهو إمارة الأوضاع الاستعمارية بقلوبها الحزينة.
صح هذا بأن الوقت لم يتمطى بالانتفاضة حسب رضاكم، بل تقلب جنبه لأجل احترام طبعي لقوم، وها هي الثورة التي تخوفكم تقلبة واحدة إلى حد بالغ، ولعلكم تظنون بأن شيئًا حسنًا قد سلب منكم، وجاء شيء ردي بدلًا منه، نعم! اضطرابكم بحق بأنكم ما هيأتم أنفسكم للحصول على شيء حسن، بل لجأتم إلى أمر تأفه وسوء، ظانين بأنه المجلى والمأوى، وهدفي بذلك العبودية للبلاد الخارجية؛ فإنكم عشتم كألعوبة في أيدي الحكام المستبدين الطماعين.
وكان يومًا حين كانت أقدام قومنا نحو تقدم الغزو والحرب، أما اليوم تضطربون من عاقبتها، فماذا أقول على استعجاب لكم هذا ؟ بأنه ما انتهى بحث سفركم بجانب إذ جاء خطر الضلالة في جانب آخر.

يا إخواني!
إني حاولت دائمًا أن أفرد السياسة عن الذاتية، إني مانزلت في هذه الساحة المشحونة بالأشواك، ولذلك تكون كثيـر من أحاديثي ذات كنايات وإشارات، أما اليوم كلما أتحدث فأريد أن أصرحه بدون أي تقيد، وهو انقسام الهند المتحدة كان خطأً أساسيًا، وبالنوع الذي أثيـرت بناء عليه الخلافات المذهبية، فكانت هذه هي النتيجة اللازمة ومظاهرها ولوائحها التي شاهدناها بأعيننا ومع الأسف نشاهدها في بعض الأمكنة إلى اليوم.
ولا فائدة في إعادة التقارير الماضية منذ السنوات السابعة و لاتنتج نتيجة مثمرة، أما السيل الجارف الذي جاء على مسلمي الهند فإنه كان بنتيجة سوء قيادة "لرابطة المسلمين” (مسلم ليغ) ولكن ليس لي فيها أية غرابة، فإنني كنت تعهدت على عواقبها منذ الأيام السالفة. والآن قد تغير الموقف السياسي للهند وليس هنا موضع لـ”لمسلم ليغ”، والآن ينحصر هذا على عقولنا بأننا هل يمكن أن نفكر على أحسن طريق أم لا ؟ لذلك عزمت أن أوجه الدعوة إلى قادة مسلمي الهند للحضور في دلهي في الأسبوع الثاني لشهر نوفمبر وقد أرسلت الدعوات وأن هذا الجو للذعر والخوف مؤقت. وإني أؤكد لكم لن يخضع أنفسنا إلا نحن وأنا دائمًا أقول وأكرر هذه المرة أيضًا: تنحوا عن طريق الشك والارتياب، وتخلوا عن سوء العمل، وإن هذا الخنجر الغريب ذو حد ثلاث من حديد أنكى من ذلك السيف ذو حدين الذي سمعت أخبار جروحه من ألسنة شبابكم.
تأملوا في حياة الحروب والفرار التي اتخذتموها باسم”الهجرة المقدسة” هدنوا روعكم وتجلدوا فكركم وعودوا عقولكم على التفكير، ثم انظروا كم كان قضاءكم على استعجال، فإلى أين تفرون ؟ ولم تفرون !!!
انظروا إلى منار المسجد الطويل يسألكم وثبًا بأنكم أين فقدتم صفحات تاريخكم المجيد، وهذا بالأمس توضأت قوافلكم على شاطئ "جمنا” أما اليوم أنتم تشعرون ذعرًا وخوفًا في المكوث هنا مع أن أراضي دلهي قد سيقت بدماءكم.

أيها الأعزة !
أحدثوا انقلابًا جذريًا وأساسيًا في نفوسكم كما أن حماسكم واندفاءكم كان غيـر ملائم ومعقول قبل مدة منذ اليوم كذلك ما يسودكم اليوم من خوف وذعر هو الأخر أيضًا لايجوز لكم، وإنه يستحيل أن يجتمع الإيمان والجبن أو الإيمان والهياج في مكان واحد أبدًا، وإن المسلمين الصادقين لا يزعزعهم طمع ولا تمسهم خوف عن موقفهم، وإن كان بعض الناس قد استتروا وجوههم عن الأعين وارتحلوا فلا تخافوا منهم، فإنهم جمعوكم للمغادرة والهجرة، واليوم انتزعوا أيديهم عن أيديكم؛ فهذا ليس من العجب العجاب.
وفكروا عسى أنهم قد ذهبوا بقلوبكم وإن كانت القلوب معكم حتى الآن، فاجعلوها مسكن العلم ومعرفة الله الذي قال بلسان نبي أمي عربي قبل ثلاثة عشـر عامًا: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنون} [الأحقاف :46]
تهب الرياح ثم تمر، ولوجاء هذا الصرصر ولكن عمره لا يطول، وإن أيام المحن والبلاء لتمر كلمح البصر، فتحولوا أنفسكم كأنكم لم تصيبوا بشيء من قبل. ولست متعودًا بإعادة القول في الخطابة ولكنني نظرًا بتغافلكم أكرر هذا القول إن القوة الثالثة قد راحت بعد أن حملت كبرها على ظهرها، وحدثت ما حدثت. إن الفكرة السياسية قد تكسرت قالبها السالفة والآن يصنع في القالب الجديد؛ فإن لم تتغير أحوال قلوبكم والكلمة القارصة التي أصيبت في أذهانكم ما ألمحت أثرها فهذا أمر آخر، ولكن رغبات التغير الحقيقي الداخلي فيكم.
فغيروا أنفسكم كما يُغير التاريخ مجراه، واليوم قد أتممنا دورًا انقلابيًا ومع هذا بعض الصفحات التاريخ بلادنا فارغة وهي بحاجة لملأها، ونحن نستطيع أن نضع موضعها بمآثرنا بشـرط أن نستعدَّ ونُعدَّ أنفسنا لها.
أيها الأعزة!
سيروا مع تطورات الزمان ولا تقولوا بأننا لم نكن مستعدين لها بل استعدوا أنفسكم من جديد، فقد تحطمت الكواكب ولكن الشمس تلمع، خذوا منه الأشعة ثم أفرشوها في هذه الطرق المظلمة، حيث تحتاج الأضواء والبياض بشدة.
ولست أنا أقول أن تحصلوا على شهادة الوفاء من مدارس الحكومة الغاشمة ولا أن تعيشوا عيشة التملق التي ظلت من ميزتكم البارزة في عهد الحكام الأجانب، وإنما أنا أقول أن لا تنسوا ظواهر الحياة اللامعة التي تذكركم ماضي الهند والتي بدأت في الهند على أيدي النفوس من قوافلكم، واعلموا أنما أنتم وارثون لهذه الظواهر والآثار فلا تتركوها وأنتم إذا لم تكونوا تهربون منها فليست هناك أية طاقة أن تطردكم، فتعالوا نتعهد أن هذه الدولة دولتنا .. ونحن أبناؤها .. وإنما دستورها الأساسي غيـر كامل بدون أصواتنا …
إنكم اليوم تخافون من الزلازل مع أنكم كنتم في حين من الدهر زلازل .. تخافون اليوم من الظلمة، ألا تذكرون كان وجودكم ضوء لامعًا .. وقد أمطرت السماء مطرًا قذرًا ووسخًا ومخافة أن تبللوا فيه انكمشتم أثوابكم وإزاركم، وهؤلاء كانوا أسلافكم الذين خاضوا في البحار وداسوا صدور الجبال، وعندما لمع البـرق تبسموا … ولما رعد السحاب أجابوه بالقهقهة … وهبت الريح فصـرفوا وجهها .. ولما عصفت العاصفة قالوا: ليس هذا طريقكِ.
أليست هذه حالة النـزعة الإيمانية بأن اللاعبين بتلابيب الملوك صاروا يتلاعبون بتلابيبهم، ويتغافلون عن ربهم إلى حد كأنهم لم يؤمنوا به قط.

أيها الأعزة!
لا أستطيع أن أصف لكم دواء جديدًا بل الدواء قديم كما الداء قديم، وهو العلاج الشافي الذي جاء به المحسن الأعظم للكون الإنساني ألا هو القرآن الكريم الذي أعلن مخاطبًا للمؤمنين.
{ولا تهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: ۱۳۹] وقد انتهى المجلس معكم اليوم، والذي أردت أن أقول لكم فقد بينت أمامكم بالإيجاز، وأكرر ثانيًا ومرارًا أن تغلَّبوا على أنفسكم وحواسكم، وانظروا ما يحدث حولكم، وأحيوا حياتكم وليس هذا شيء يُباع في السوق وأشتـريه لكم، ولا يحصل هذا إلا من دكان القلب ومن نقد الأعمال الصالحة.
[من كتاب خطبات آزاد (مجموع خطب لإمام الهند مولانا أبو الكلام آزاد)].

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of