حذار من الصداقة في حقبة الدراسة

توصيف عالم الفورنيوي الإنتاج الأدبي النثري

(للصداقة أقسام وهذه الرسالة في الصداقة التي ينعكس أثرها على القلب ويرتسم نقشها على الصدر، فيصاب صاحبه بهم وغم وحزن وألم؛ لجرح شديد وقرح أزيز، فيتسبب لإنصرافه من جميع المهمات والإغفال عن سائر المسئوليات.)

اتق من جعل الصديق واحترز من توطيد الصداقة، ما دمت في سبيل العلم و ما زلت في حقبة الدراسة، فإنها تؤديك إلى الخيبة والخسارة، ولا تجعلن في نصيبك مفازة، تجر إليك الخجل والندامة، ولا تجلب لك شرف ولا كرامة؛ فإن من متطلبات العلم و القراءة، أن يكون الشخص كامل العناية، مستحضر القلب مستجمع الذهن ومستكمل النباهة، عند كل مطالعته وقراءته والكتابة؛ ولا سيما إذا كان مع الأستاذ في الدراسة، حيث يتابعه بقلبه وقالبه، ويباشره بالبصيرة والبصارة، حتى لا تفوت منه شاذة ولا فاذة، ولا تغيب عنه شاردة ولا واردة، إذا أحاط المعلومات يحيط بكل رعاية، وإذا جمع البيانات يجمع بتمام الفقاهة، لا يجعل خالدا زيدا ولا زيدا حارثا، كما قال شاعر فيمن تساهل في الكتابة:
أَقُولُ لَهُ بَكْرًا فَيَسْمَعُ خَالِدًا * وَيَكْتُبُهُ زَيْدًا وَيَقْرَؤُهُ عَمْرَا
ولا أن يشتغل بشئ يكفه عن الدراية، ولا بأمر يمنعه من تحقيق الذهانة، كي يستطيع تمييز السمانة من الغثاثة، و الرصانة من الركاكة، ويقدر على حفظها بكل صلاح وسلامة، وبغاية الصحة والنزاهة، من بدايتها إلى النهاية.
ولا شك أن الصبابة والصداقة، تخل بهذه المقصودات كلها، وتقتل هذه الأغراض بأجمعها؛ بلا غلو ولا زيادة، ولا إكثار ولا إضافة، وليس فيه أعجوبة ولا غرابة، لمن له مسحة من العقل وشيء من الفطانة؛ فإنه بإمكانه أن يعرف بكل سهولة وبساطة، و بكل عفوية وسذاجة؛ بأن الصداقة تخالف استجماع الذهن، وتناقض استحضار القلب، وتضاد استبقاء المخ، وتعارض استقرار العقل، لاتترك قلبا يستقر، ولاتدع ذهنا يستجمع؛ تجعلهما أسيرا لها، وتستنكر أن يكون أي فكر شريكا لها، فتطرد الأفكار من القلب والذهن كلها، وتستجلب جميع التوجهات إلى نفسها، فينشغل الشخص في أمرها، وينصرف عن غيرها، ثم لا تقتصر على هذا؛ بل إضافة على هذا تزلزل القلب والذهن زلزالا شديدا،وتزعزعهما زعزاعا دامغا، لا أمن فيهما ولا قرار، ولا هدوء ولا استقرار، يلتمس الرجل ما يُسكّن نفسه ولا يجد، ويبحث ما یُقرّ قلبه ولا يصب، فهو الآن حيران وتعبان، لهفان وهل كان، مزعزع من الرأس إلى الأقدام، ومشوش من الروح إلى الجنان، والله إنه يحتاج إلى من يعزّيه، ويفتقر إلى من يسلّيه، ولكن حياؤه يمنع أن يُظهر، وغيرته تكف أن يُبرز، حذرا أن يأخذ الناس أمره في الإستهزاء، وخوفا أن يطيروا قوله في الهواء، والله إنه في هذا الحين مسكين مفلس فقير، قلق مضطرب قلبه كسير، ومقهور ضعيف بحب صد يقه أسير، يبكي ويبكي على ما فعل، وينتحب وينتحب على ما حصل، يتمنى الآن أن يتخلى عن حب صديقه، ويريد أن يتخلص من وداد حبيبه، ولكن أين له هذا الآن؟!  إن الصداقة استقرت في روحه، واختلطت بدمه وعرقه، واحتلت على صفحة قلبه، واستحوذت على سطح ذهنه، بل آل به الأمر إلى حد؛ أن لا توجد في قلبه الآن إلا للصديق صولة، ولا في الذهن إلا له جولة، ولا في الداخل إلا له ضجة، ولا في الخارج إلا له حركة، وليست له بغية سوى أن يصاحبه، ولا أمنية غير أن يجالسه، لا في الخاطر غيره فكر، ولا في اللسان سواه ذكر، فلا يمتنع من ذكره بأي حال، لا في الخلوة، ولا في الجلوة أيما كان، وسواء كان منه قريبا، أم ذهب عنه بعيدا؛ لا يتخلف فكره لا للحظة، ولا يمتنع خياله ولو لدقيقة، لزمه كل اللزوم وأدركه كل الإدراك، لا مفر منه لحظة، ولا محيص عنه أبدا، إنه داء عضال لا دواء له، ومرض أخير لا علاج له، وجرح سيال لا ضماد له.
فهل يستطيع أحد في هذا الحال المضطرب، أن يتفرغ للدراسة بشكل كامل طيب، وهل يقدر أن يستجمع ذهنه كامل الاستجماع، ويطيق أن يستحضر قلبه تام الاستحضار، مع أنه محصور بالأفكار والهموم، ومقهور بالأحزان والغموم، وإضافة على هذا ذهنه مشغول ومخه تحت الأفكار مغلوب، وإضافة على هذا مزيدا أن قلبه مجروح وجنانه مقروح.
فيا من له علاقة، بأحد من زملائه في عهد الدراسة، تشبه الحب والوداد والصداقة، تطالب منه تخصيص الخير له وإفراد المزاح والدعابة، اجتنب منه وتخلف عنه شيئا فشيئا إشفاقا على هدفك وترحما على الهواية، وخالف شغفك به حرصا على تنمية أهليتك و رغبة في رفع الكفاءة، فلا تجنح إليه ولا تركن، ولا تميل إليه ولا تسكن، واقبض نفسك على الصلابة، ولا تعامله بالليونة والمرانة، ليس إليه إساءةً؛ بل على مرامك حفاظةً، ولا لتوتير العلاقة منه؛ بل بعرضك صيانةً، فابتغ الخير لنفسك ولا تتعرض للصداقة، فإن في أولها وإن كانت عذوبة؛ آخرها مملوء بالهموم والغموم ومشحون بالمرارة، ومن اقتحم البداية قبل أن يعرف النهاية ضاعت جهوده ولم ينل المفازة، فنقّب وفتّش قبل أن تتقدم، ووعيّن المنزل وحدّده قبل أن تركب السيارة، أسأل الله الحفظ السلامة، لي ولكم من كل سوء ومعارة، ومن جملة العوائق والعراقيل في  سبيل الدراسة، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليما كثيرا.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of