كتبه: أبو أشعر فهيم
نقله إلى العربية: محمد شاهد يار محمد السنابلي
(هذه السطور والكلمات عبارة عن مشاعر وأحاسيس وانطباعات عن الجامعة السلفية جادت بها قريحة الأخ الفاضل "أبو أشعر فهيم” وفاض بها جنانه فسطرها بنانه بلغة "أردو” بأحرف من نور و بأسلوبه الأخاذ الرائع الذي يأسر القلوب. فهو في هذه السطور يطوف بك في عالم تاريخها الحافل بالبذل والعطاء ويعرفك بكوكبة من قادتها و علمائها الأجلاء و يطلعك على مآثرهم الجليلة، كل ذلك بأسلوب ممتع وبنكهة أدبية بحيث لا يجد الملل والسآمة إلى قلبك سبيلا.)
______
إنّ الجامعة السلفية ببنارس، الهند، ليست مجردّ جامعةٍ؛ بل هي بمثابة حركة ودعوة، وهي لسان لمنهج السلف الصالحين، وترجمان لمدرسة المحدّثين.
وكُلُّ من ينتمي إلى هذه الجامعة من الطلبة والمدرّسين، والخرّيجين، والأعضاء، وسائر الموظفين؛ فهم مبعث عزٍّ وافتخار لها، كما أنّ مكتبتَها الفخمةَ، ومنشوراتِها القيّمةَ، ومجلّتيها الشهريَّتين «صَوتُ الأمة» باللغة العربية، و«مُحَدِّثْ» باللغة الأردية، ومبانيها الفاخرةَ, وقُبّتَها الخلاّبةَ, ومناراتِها المتلألئةَ؛ كُلّها تُضفي عليها رونقًا وبهاءً, وجمالاً وجلالاً.
وها نحن نرى أبناءها الخرّيجين ينتشرون في كافة أرجاء المعمورة، مُنورين عالَمَ العرب والعجم جميعًا بإنجازاتهم العلمية المشرقة، وأعمالهم الجليلة الرائعة.
وها هي الجامعة التي قد أُلِّف في إحدى زواياها «الرحيق المختوم»؛ ذاك الكتاب الشهير، والسِّفر القَيِّم الذي حاز قصب السبق في مسابقة السيرة النبوية على مستوى العالم، فكان سببًا في رفع شأن هذه الجامعة، وذيوع صيتها.
وقد أُلّف في رحاب هذه الجامعة أيضًا: «إتحاف الكرام بشرح بلوغ المرام» للشيخ صفي الرحمن المباكفوري، والكتاب العظيم المسمّى بـ: «اللمحات إلى ما في أنوار الباري من الظلمات» الذي أعدّه الشيخ الكبير رئيس الأحرار الندوي في خمس مجلّداتٍ ضخمةٍ بأسلوب علمي رصين.
أضف إلى ذلك أنّ الكتاب الموسوم بـ«تنوير الآفاق في مسألة الطلاق»؛ والمعروف بأبحاثه القيمة، ومحتوياته الرائعة ما هو إلا إنتاجٌ علمي أصيلٌ صدر من هذه الجامعة. بل إنّ معظم كتب ومؤلّفات الشيخ رئيس الأحرار الندوي قد حظيت بالإعداد والترتيب والتأليف بين جدران هذه الجامعة, وتحت سقف مكتبتها الفيحاء.
لقد كان الدكتور مقتدى حسن الأزهري رحمه الله بمنزلة الروح لهذه الجامعة، وكانت شخصيته تُعتبَر مبعثَ فخرٍ واعتزازٍ لها. وقد ظلّ قلمه يصول ويجول في رحابها طيلة أربعين سنةً؛ وهو لا يكَلّ ولا يَمَلّ عن تعريف الجامعة, وأنشطتها وجهودها إلى العالم كله مشارقِه, ومغاربه، بأسلوبه الرصين ولغته الجميلة؛ فمَثلُه في علاقته وارتباطه بالجامعة السلفية كمثل علاقة "تاج محل” بآكرة, و "منارة قطب” بدلهي.
"المرأة المسلمة” و”تاريخ الأدب العربي” -بمجلداته الخمس- و "قصة عن الحياة” و "المجد المفقود” و”في ظلال النبوة” هذه الكتب كلها قد أُلِّفت في رحاب هذه الجامعة. فكان رحمه الله ظلاًّ ظليلاً لهذه الجامعة طيلةَ حياته، كما احتضتنه الجامعة، وأظلّت عليه بظلالها الوارفة على حدٍّ سواء.
ومن الجدير بالذكر أنّ الدكتور الأزهري رحمه الله لم ينس الجامعةَ ولم تغب ذكراها عن ذهنه قط؛ حيث كان قلبه ينبض بها فيذكرها دائمًا في جميع المناسبات عبر خطبه ومحاضراته.
وكان الدكتور الأزهري يتسم بشخصية ذات مواهب متعددة ومهارات متنوعة؛ بل إنه كان في الحقيقة مُحرِّكًا علميا يقود وراءه خلقًا كثيرًا لا يُحصون لكثرتهم. وما إن انطلق القطار العلمي من الجامعة بهذا المحرك الأزهري حتى صارت الجامعة عاصمةً للمنصات العلمية.
وكان في عصره يتوافد إلى هذه الجامعة وفود أهل العلم من كل الولايات والمديريات والمدن؛ مثل: عليكره، وكولكاتا، وعمر آباد، ودلهي، وكشمير، وحيدرآباد، ولكناؤ، وأعظم كره، وبستي وغيرها، فإذا بالجامعة تشهد عُرسًا علميّا وجوًّا ثقافيًّا تهب رياحُه في أرجاءها فتنتعش بطيب روائحها. كما أنّ المؤتمرات العالمية التي استضافتها الجامعةُ في عصره تبقى -دومًا- تذكارًا علميًّا له في ذاكرة التاريخ، وتعكس مدى سعة أفكاره وروعة آراءه.
ومن مآثره أنه قاد عجلةَ البحث والتحقيق في "إدارة البحوث العلمية” التابعة للجامعة طيلةَ حياته, فظلّت تعسل خليّتُها حتى فارق الحياة ولم تتوقف قط. ولعله كان أوّل ناشر في الهند قدّم لقرابة 275 كتابًا جديدًا بمقدمة علمية رائعة قلما يوجد لها نظير.
ثم ههنا في أروقة هذه الجامعة كانت تتفجّر ينابيع العلم والعرفان لكل من الشيخ إدريس الرحماني، والشيخ شمس الحق السلفي، والشيخ محمد حنيف المدني.
ومن هنا ظلّ يفيض نبعُ علمِ الشيخ عزيز الرحمن السلفي ردحًا من الزمن. وهنا في رحاب هذه الجامعة رأى الشيخ عبد الوهاب الحجازي بأم عينيه قافلةَ أئمة الحجاز تحط رحالَها.
وهي الجامعة التي أتاحت للمواهب العلمية للدكتور رضاء الله المباركفوري أن تنمو وتنضج في حضنها, فكان من أمره أن ألّف في رحابها كتابه القيم الشهير "التعريف بالسلفية”.
لقد كان الأزهري رحمه الله أبصر النور في مدينه مئو ونشأ فيها وترعرع. وشبّ في رحاب كل من الجامعة العالية، والجامعة الإسلامية فيض عام، والجامعة الأثرية. وازدهر شبابه وبلغ أشدّه في جامعة الأزهر بمصر. واستوى قلمه على سوقه وتجلت شخصيته العلمية في مدينة بنارس حيث سقى أرضَ الجامعة السلفية بمداد قلمه ونبع علمه، فقام بتعريب الكتاب "تحريک آزادئ فکر اور شاه ولي الله محدث دهلوي کی تجديدی مساعی” باسم "حركة الانطلاق الفكري وجهود الشاه ولي الله في التجديد” كما قام بتعريب الكتاب البديع الشهير "رحمة للعالمين” للقاضي المنصوفوري. وهنا كان قلمه يفيض بأنواره على صفحات مجلة "صوت الأمة”. لكن الآن وللأسف الشديد لم تعد لشخصيته قيمة كما كانت من قبل. وبدأ ينفرط عقده العلمي وتتبعثر جهوده التي بذلها على مدى حياته بالجامعة.
هنا قد ارتوى من معين علمه مئات من تلاميذه، وليس هذا فحسب بل نهل من نبع علمه وفكره وأدبه قرابة أربعين مدرسًا فصقلت مواهبهم وتحسنت قدراتهم. وزد على ذلك أنه أضفى على إنتاجاتهم العلمية وإبداعاتهم الفكرية حلاوة وطلاوة بتصحيحاته وتعليقاته ومقدماته وضمّنها آراءَه القيّمة وأفكارَه النيّرة.
واليوم -إذ نحن مجتمعون تحت ظلال هذا الصرح العلمي الشامخ بأرض بنارس- نتذكر بكل حرقة وأسى هذا المربي العظيم والألاف من أبناءها الخريجين الذين تربوا في حضنها.
وفي هذه الجامعة وجدنا نحن معشر الطلاب من الدكتور رضاء الله محمد إدريس المباركفوري لمساته الحانية، فقد تغشّانا بعطفه ورأفته وأولانا برعايته وعنايته، وهنا قام بالرد على السيد الغازيفوري بدحض مزاعمه وتفنيد افتراءاته، كما تم كشف تمويهات مقالاته المنشورة في مجلته "زمزم” باسم "گنبد کی صدا” على يد الشيخ عبد السلام السلفي.
وهنا قد أُلِّف كل من هذه الكتب القيمة: "خُمار زهد” (نشوة الزهد) للشيخ عبد المعيد المدني, و”التعريف بالسلفية” و "فقدان الضمير”.
وهنا تشرّفت الجامعة بقدوم الإمامين من الحرمين الشريفين فشهد مسجدُ الجامعة أجواء روحانية من صلاتهما وخطبهما.
وهي الجامعة التي شرّفها الأساتذة العرب بقدومهم الميمون. وفي ربوعها ازدانت المجالس العلمية بدروس ومحاضرات الشيخ ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله-؛ المحدث الكبير والمناضل الشهير عن السلفية. ومنها صدر لأوّل مرة كتابه القيم "بين الإمامين مسلم والدارقطني”.
ومن هذه الجامعة السلفية صدر الكتاب "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح” في تسع مجلدات، وهو يعد من أنفس وأجود شروح المشكاة باللغة العربية.
وهي الجامعة المركزية التي تشرفت بأن يكون العلامة عبيد الله الرحماني المباركفوري أول رئيس لها، والذي كان يقول عنه العلامة الألباني رحمه الله: إنه محدث الهند ومن زهاد أهل الحديث وعبادهم.
ولقد أشاد بهذا الشرح واعترف بعظم شأنه وعلو مكانه الدكتور يوسف القرضاوي أيضًا.
وبناءً على ما تقدّم؛ فلم تعد هذه الجامعة مجرد حركة علمية أو دعوة إصلاحية؛ بل أصبحت الآن عَلَمًا على تاريخ مشرق، واسمًا على حقيقة ناصعة البياض.
وهذه هي الجامعة التي تربى في نواحيها قبل إنشائها العلامةُ عبد الحميد الرحماني رحمه الله، ولما أنشئت الجامعة انضمّ إليها مُدرِّسًا، ثم التحق بعد ذلك بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة؛ فحظي بصحبة كبار العلماء، وملازمة النخبة الفضلاء.
وقد ازدهر شبابه واكتملت فتوته في الجامعة السلفية، وما زالت ذكرياتُه باقيةً حاضرةً بأرض بنارس؛ فيفوح شذاها ويتضوّع مسكها -حتى الآن- في أزقتها وحاراتها وأحيائها ومساجدها، ولم تفارق ذكراه عن قلوب أسرة تاجا خان، وما زالت بيوتها وجدرانها ترتجّ بصدى خطبه ومحاضراته شاهدةً بما تناول فيها من بيان عقيدة التوحيد، وبما قام به من الدعوه والتبليغ.
وقد ازدانت أروقة هذه الجامعه بالدروس الحديثية للشيخ عبد السلام المدني، وهنا تجلت براعته في الفقه حتى ذاع صيته وشهرته في الآفاق.
ويا أسفى على الشيخ مختار أحمد الندوي رحمه الله!!! لقد كان رجلاً عبقريًّا مُفعَمًا بالإيمان الراسخ القوي، لم ير الجيل المعاصر مثيلا له، ولم يسمع النشأ الجديد مثل خطبه المؤثرة ومحاضراته الرائعة. وهو الذي قد سبق عصره ومعاصريه بمئات السنين، وكأنه ولد قبل زمانه بقرنين، ولم يرحل عن هذه الدنيا إلا بعد أن رأى بأم عينيه تحقّقَ أحلامه التي كان يحلم بها منذ خمسين سنه.
وقد حفرت ذكرياتُه في وجدانها وجُدرانها؛ فما زالت تعيش في لبناتها وأساساتها، بل في كل ذرّة من ذرّاتها، وقد أحاطت أياديه البيضاءُ بكل قاعدةٍ من قواعدها رفعًا لها وبناءً، وتضحيةً بكل وغالٍ ورخيص في إعلاء منارتها ومكانتها وتشييدها. وهو الذي كان لذهنه الخصيب وفكره العالي القِدحُ المعلّى في كُلّ ما أحرزته الجامعة من تقدم علمي ومالي، وهو الذي يعتبر العقل المدبر في تحويلها من دار العلوم المركزية إلى الجامعة السلفية، وفي النهوض بها إلى قمة الرقي والازدهار.
وإنّ خريطة الجامعة التي كان يحلم بها ويخطط لها الشيخ الندوي في أحلامه إنها لم تكن عبارةً عن بضع مباني وعمارات محدودة في مساحات قصيرة. وإنما كان يحلم بجامعة عملاقة على أراض واسعة تتربع على مساحات كبيرة.
فلما رأى الشيخان: الرحمانيُّ والندويُّ أنّ حلمهما لن يتحقّق على هذه الأرض؛ قرّرا مغادرتها إلى العاصمة دلهي ومدينة ماليغاؤن، واتخذاهما مجالاً لتحقيق حلمهما, ومقرًا لعملهما, فما هاتان الجامعتان: الجامعة الإسلامية سنابل، والجامعة المحمدية إلا امتداد للجامعة السلفية بلا ريب.
وبعد إنشاء الجامعة السلفية صارت عقيده التوحيد تتضح صورتها أكثر، وتتجلى معالمها، وحينئذٍ توطدت علاقات هذه الجامعة مع دول العرب. ولما قدم الأساتذة العرب إلى هذه الجامعة والتحق طلابها بالجامعات السعودية؛ لُوحظ تغيّرٌ ملموسٌ في المفاهيم السائدة لدى جماعة أهل الحديث بالهند في قضايا توحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات. وذلك لأنّ الغالبية العظمى من المسلمين الهنود هم إما أشاعرة أو ماتريدية في باب العقيدة.
كما كان لإنشاء هذه الجامعة أثر عظيم في تقوية إيمانهم وجلاء أفهامهم، والقضاء على مظاهر البدع والأباطيل، وبدء الاهتمام بتدريس الكتاب "تقوية الإيمان” و”كتاب التوحيد” وانتشار تعاليم العقيدة الصحيحة واتباع السنة النبوية في كل أرجاء البلاد.
وإنّ ما قدمته الجامعة السلفية خلال مدة وجيزة لا تتجاوز خمسين أو ستين سنة؛ من خدمةٍ جليلةٍ وتمثيل رائع للمنهج السلفي -ليس على مستوى الهند فقط بل على مستوى العالم كله- لهو باب مشرق في ذاكرة التاريخ؛ تتجمّل به صفحاته، وتتغنى به أسفاره بلسان رطب نديٍّ إن شاء الله.
وها قد قدّمت الجامعةُ لأبنائها الشيءَ الكثيرَ، حتى مكّنتهم من الرتب العالية، والمناصب القيادية، ناهيك بالنجاحات الأخرى التي حقّقتها لهم في حياتهم، فلنقف هنا ونتساءل: ماذا قدّمنا نحن للجامعة حتى الآن يا تُرى؟
ثم لنتذّكر أنّ هذه الجامعة أمانةٌ عظيمةٌ للأمة في أعناقنا؛ فلئن فرّطنا في القيام بواجبنا تجاه هذه الأمانة بأيّ صورةٍ كانت، أو تقاعَسْنا عن أداء مسؤولياتنا, أو وَضَعَنا العقبات والعراقيلَ في طريق من يقوم بواجبه تجاهها، أو حرّفنا التاريخَ بتزوير الحقائق وتمويهها, أو شوّهنا صورةَ ماضيها المجيد, وطمسنا معالمها، أو قمنا باستغلالها لمصالحنا الشخصية، أو تحويلها إلى ساحة الانتقام؛ فَلْنَعْلَم أننا جميعًا مجرمون ومحاسَبون عند الله.
ولو رأينا أحدًا سوّلت له نفسه أن يستغلّ اسم الجامعة و سمعتَها الطيبة لتحقيق أغراضه الشخصية، واكتساب الشهرة الزائفة، فيجب علينا جميعًا نحن معشر الأبناء أن يقوم كل واحدٌ منا بدوره وواجبه بتقديم النصح والمشورة سرًّا بدلاً من التشهير والتعيير والإساءة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ولنعمل دومًا على رقيها وازدهارها، والمضي بها قدمًّا نحو المجد والعلا، ولنعاهد أنفسنا على مواصلة حمل رسالتها إلى العالم بعزيمة أقوى، وأن نزيد علاقتنا وحبنا لها؛ لأننا نحن من الجامعة والجامعة منا، ولا ننسى القائمين عليها في دعواتنا بأن يثبت الله أقدامهم، ويسدد خطاهم ويزيدهم عزيمةً وهمّة وثباتًا، ويحفظهم ويحفظ سمعتهم من مكر الماكرين وكيد الكائدين.
Leave a Reply