لم يمر شهر على فراق المسجد البابري الأليم، وها اليوم نسمع عن قانون جديد للتجنيس في الهند، يستهدف المسلمين ويثير جدلا وغضبا شديدا بينهم وبين جميع محبي الانصاف والتعايش السلمي والاجتماعي في البلاد، ولم تكن عندي –بصراحة- أية نية للكتابة حول هذا الموضوع أي حول مشروع قانون التجنيس الجديد الذي قدمته الحكومة اليمينية يوم أمس في البرلمان، وتمت عليه الموافقة بالأغلبية من قبل مجلس النواب أو الشعب (لوك سبها)، ومن ثم اليوم من قبل مجلس الولايات أو الشيوخ (راجيه سبها)، وبذلك أصبح المشروع قانونا فعليا حقيقيا على أرض الواقع.
ولكن الأمر الذي دفعني إلى كتابة الأسطر التالية وفي غاية العجالة؛ هو ما رأيت في بعض وسائل الإعلام العربية والعالمية من استحسان لهذا المشروع أو استضعاف وتقليل لمضاره ومفاسده، بل تم تداول المشروع كأنه خطوة إيجابية وإنسانية اُتخذت لمساعدة اللاجئين المضطهدين في الدول المسلمة الثلاث وتوفير ملاذ آمن لهم فقط، من دون أن تُذكر خطورته وعواقبه، ومن غير أن تُنظر في الأسرار الكامنة وراءه.
فوفقا للقانون المذكور سيتم منح الجنسية لجميع أصحاب الديانات من الهندوس، والسيخ، والبوذيين، والجينيين، والبارسيين والمسيحيين ما عدا المسلمين، حيث سيتم استثناؤهم من قانون التجنيس، وتزداد خطورة هذا القانون حيث أنه يأتي في وقت تعتزم الحكومة فيه بتنفيذ حملات واسعة في شتى أنحاء البلاد لتسجيل الجنسية وإثباتها بتقديم مستندات ووثائق تدل على أن الشخص المعني هو هندي أبا عن جد قبل بداية العام 1972م، وهذا الأمر ليس بسهل كما يتصوره البعض، بل إنه سيجبر الملايين من المسلمين وغيرهم على تعطيل أنفسهم وتحمل المشاق لمراجعة الدوائر الحكومية والوقوف في طابوراتها الطويلة، وعلى توفير وثائق الأملاك والأراضي وشهادات الميلاد وغيرها التي تثبت وجود آبائهم وأجدادهم في الهند منذ القدم، وقد تم تنفيذ مثل هذه الحملة قبل فترة في ولاية آسام الواقعة في شمال شرقي البلاد، والتي أسفرت عن إلغاء الجنسية لأكثر من مليون ونصف مواطن، منهم حوالي نصف مليون مسلم حيث أصبح هذا الكم الهائل من الأشخاص أجانب في أوطانهم.
فالمتأمل في القانون وفي أبعاده ونتائجه يعلم علم اليقين بأن القصد وراء تمريره هو استهداف المسلمين وإقصاؤهم وتخويفهم بشكل واضح وصريح، فالقانون يحمل في طياته الكثير من المخاطر والمفاسد والتهديدات التي تفوق كل التصورات، كما أنه ينتهك تلك المبادئ والقيم التي قامت وتأسست عليها دولة الهند بعد الاستقلال، وتبناها زعماء الاستقلال السابقون مثل غاندهي وآزاد ونهرو وغيرهم، واستمر عليها الساسة اللاحقون إلى الآن، واشتهر الهند بذلك كأكبر دولة ديموقراطية في العالم.
وأخطر من ذلك كله هو أن هذا القانون، وقبله قانون الطلاق الثلاث، وقانون إلغاء الحكم الذاتي من ولاية جامو وكشمير، ومن ثم تسليم المسجد البابري للهندوس، واليوم إقصاء المسلمين من قانون التجنيس في ظل الحملات القادمة لإثبات الجنسية، كل هذه الأمور بلا شك سلسلة متواصلة من مخططات الأحزاب اليمينية المتطرفة التي وصلت إلى سدة الحكم قبل سنوات، وأحكمت سيطرتها على البلاد، وبدأت تنفذ أجنداتها المسمومة الواحدة تلو الأخرى والهادفة إلى تفكيك المسلمين وتدمير هويتهم وسحب البساط من تحت أقدامهم.
فالموافقة على هذا القانون سيفتح بابا خطيرا لإلغاء الكثير من أصول ديمقراطية الدولة، وكذلك من دستور البلاد الذي يكفل للجميع -للمسلمين وغيرهم- حقوقهم الدينية والاجتماعية والثقافية، ويسمح لهم بممارسة شعائرهم وطقوسهم، ومشاركتهم في العملية السياسية والانتخابات بكل حرية، ويمنع الإقصاء الديني والتمييز العرقي ضد أي شخص.
كما أنها خطوة خطيرة ستجلب الخسائر والمشاكل للبلد بأكمله، وستهدد كيانه ونسيجه الاجتماعي والديموغرافي، بينما لم ينسى التاريخ آلام "تقسيم الهند” الذي أدى إلى هلاك مئات الآلاف وتشريد الملايين، وإلى خسارة ضخمة لا تقدر بثمن في الأموال والأنفس والممتلكات.
وكما يعلم الجميع بأن الهند بلد متعدد الأعراق والديانات والحضارات، ومتنوع اللغات واللهجات والثقافات، وهو سابع أكبر بلد من حيث المساحة، وثاني أضخم بلد من حيث السكان، الذين يتجاوز عددهم أكثر من مليار نسمة، ويدين غالبيتهم بالديانة الهندوسية، ويعيش المسلمون فيه منذ آلاف السنين، بل حكموا الهند لمدة ثمانية قرون، لكن أصبحوا في الأقلية بعد الاستقلال والتقسيم، حيث تبلغ نسبتهم اليوم حوالي 15% من إجمالي السكان وفق الإحصائيات الرسمية.
وتتجلى لدى غالبيتهم مظاهر الضعف واليأس والتبعية والتخلف، وفي كل جانب من جوانب حياتهم المختلفة، إضافة إلى ذلك تجدهم منقسمين ومفترقين إلى جماعات وأحزاب وفرق، ومن ثم هم يجعلون -للأسف- حزبهم وجماعتهم هو محور الولاء والبراء، وأساس الحب والبغض، ومبدأ الاتفاق والافتراق، حيث يضلل بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم بعضا، في حين يتربص بهم الأعداء، ويخططون ضدهم ليلا ونهارا، ويشعلون نار الفرقة بينهم لتكسيرهم وتمزيقهم وإنهاء وجودهم.
فهم اليوم يواجهون بالفعل ظروفا صعبة وتحديات خطيرة، من أجل ذلك يتعين عليهم جميعا وعلى قياداتهم خصوصا أن يتحدوا ويوثقوا عرى الأخوة والمحبة والإيمان بينهم، ويحاولوا أن تكون لهم كلمة موحدة في مثل هذه الظروف الصعبة والاستثنائية، ويبتعدوا عن كل ما يثير الفرقة والفتنة، مع العودة الصادقة إلى الدين الصحيح والتمسك بقيم الإسلام وثوابته، وعدم الانجرار وراء الشبهات والشهوات.
أسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين في الهند وفي كل مكان..آمين!
Leave a Reply