"سماحة وعظمة الإسلام من خلال فقه حديث قول النبي ﷺ "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ "

الدكتور عبدالرحمن السيد عبدالغفار بلح الحديث وعلومه

الحمدُّ للهِ المتفضِّلِ بإنزالِ القرآنِ هدىً للناسِ، وبيِّناتٍ من الهُدى والفُرقان. أنزلَه بأفصحِ لسانٍ، وأوضحِ بيانٍ، وأَسْطَعِ بُرهانٍ، وأقومِ تبيانٍ، وأبلغ حُجَّةٍ، وأبْينِ مَحجَّةٍ. ذا حِكَمٍ بالغةٍ وحُججٍ لامعة. أخبارُه لا تَتعارضُ، وأحكامُه لا تَتَناقضُ، وفوائدُه لا تُعدُّ، وفضائلُه لا تُحدُّ، وجواهرُ بحارهِ لا تُحصَى، ودُرَرُ معانيهِ لا تُستقصَى. عَجزتِ الفُصحاءُ عن معارضتهِ، ونَكصت الألبَّاءُ عن مُناقضتهِ. وكيف لا يكونُ كذلك وهو كلامُ ربِّ العالمين، المنزَّلُ به الروحُ الأمينُ، على قلبِ سيدِ المرسلين، وأفضلِ الأولين والآخرين؛ محمدٍ خاتمِ النبيّين. أرسلَه بآياتهِ، وأيَّدَه بمعجزاتهِ، والكُفرُ قد طَمتْ بحارُه، وزخرَ تيَّارُه. وعُبدتِ الأوثانُ، وأُطيعَ الشيطانُ. فلم يزلْ صلى الله عليه وسلم يجاهدُ في اللهِ حقَّ جهاده، ويَدعو إِليه الثَّقَلين من عباده. ويدأبُ في إِيضاحِ السُّبل، ويصبرُ صبرَ أولي العزم من الرسُل، إلى أن أنجزَ اللهُ وعدَه، فعُبد وحدَه، وهزم الشيطانَ وجندَه، وفلَّ شَباتَه وحدَّه، صلى الله عليه، وعلى آلهِ الأطهارِ، وصحابتهِ الأخيارِ، ما تعاقَبَ الليلُ والنهارُ، وسلَّم، وشرَّف، وكرَّم ، وبعد فهذه بعض التوجيهات النبوية من حديث جامع من جوامع كلمه ﷺ
نص الحديث :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ :” إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ”
1- مناسبة إيراد الحديث:
مناسبة إيراد المصنف لهذا الحديث عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة من حيث إنها تضمنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد، فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع .
2-فقه ترجمة البخاري للحديث:
قال –رحمه الله – (باب الدِّينُ يُسْرٌ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ” أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ”)، قال في هدي الساري: "وإنما استعمله المؤلف في الترجمة لأنه ليس على شرطه ومقصوده: أن الدين نبع على الأعمال لأن الذي يتّصف بالعسر واليسر إنما هو الأعمال دون التصديق”.
3-معاني الكلمات:
” يُسْرٌ ": أي ذو يسر.قال ابن الأثير في "النهاية”،(5/295):الْيُسْرُ : ضِدُّ الْعُسْرِ . أَرَادَ أَنَّهُ سَهْلٌ سَمْحٌ قَلِيلُ التَّشْدِيدِ”،وقال العيني في "عمدة القاري” (1/234): وذلك لأن الالتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلا بالتأويل أو هو اليسر نفسه كقول بعضهم في النبي ﷺ إنه عين الرحمة مستدلاً بقوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}[الأنبياء: 107]
” يشاد الدين ” يكلف نفسه من العبادة فوق طاقته والمشادة المغالبة.
قال ابن الأثير في "النهاية”، (2/451):” مَنْ يُشَادُّ الدِّينَ يَغْلِبُهُ أَيْ يُقَاوِيهِ وَيُقَاوِمُهُ، وَيُكَلِّفُ نَفْسَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ فِيهِ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَالْمُشَادَدَةُ:الْمُغَالَبَةُ، وَهُوَ مِثْلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ”.
” إلا غلبه ” رده إلى اليسر والاعتدال .
” فسددوا ” الزموا السداد وهو التوسط في الأعمال .
يقول ابن الأثير في "النهاية”،(2/352):”أَيِ اطْلُبُوا بِأَعْمَالِكُمُ السَّدَادَ وَالِاسْتِقَامَةَ ، وَهُوَ الْقَصْدُ فِي الْأَمْرِ وَالْعَدْلُ فِيهِ”. "قاربوا ” اقتربوا من فعل الأكمل إن لم تسطيعوه .
يقول ابن الأثير في "النهاية”،(4/32):” أَيِ : اقْتَصِدُوا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا ، وَاتْرُكُوا الْغُلُوَّ فِيهَا وَالتَّقْصِيرَ‏ ، ‏يُقَالُ : ‏قَارَبَ فُلَانٌ فِي أُمُورِهِ إِذَا اقْتَصَدَ‏”
"واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة "أي : استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة كأول النهار وبعد الزوال وآخر الليل،يقول ابن الأثير في "النهاية”،(3/346):” الْغَدْوَةُ : الْمَرَّةُ مِنَ الْغُدُوِّ ، وَهُوَ سَيْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ ، نَقِيضُ الرَّوَاحِ ، وَقَدْ غَدَا يَغْدُو غُدُوًّا . وَالْغُدْوَةُ بِالضَّمِّ : مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ”.
وقال في (2/129):” الدُّلْجَةُ هُوَ سَيْرُ اللَّيْلِ ، يُقَالُ : أَدْلَجَ بِالتَّخْفِيفِ : إِذَا سَارَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ، وَادَّلَجَ بِالتَّشْدِيدِ : إِذَا سَارَ مِنْ آخِرِهِ ، وَالِاسْمُ مِنْهُمَا الدُّلْجَةُ وَالدَّلْجَةُ ، بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ”.
4-المعني الإجمالي للحديث:
قال ابن حجر –رحمه الله- في "فتح الباري شرح صحيح البخاري”،(1/94-95):
والمشادة بالتشديد المغالبة يقال شاده يشاده مشادة إذا قاواه والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينيه ويترك الرفق الا عجز وانقطع فيغلب قال بن المنير في هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع وليس المراد منع طلب الاكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة بل منع الافراط المؤدي إلى الملال أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة أو إلى أن خرج الوقت المختار أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة …. وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعيه فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصه تنطع كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر، وقوله فسددوا أي الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط قال أهل اللغه السداد التوسط في العمل وقوله وقاربوا أي أن لم تستطيعوا الأخذ بالاكمل فاعملوا بما يقرب منه قوله وأبشروا أي بالثواب على العمل الدائم وأن قل والمراد تبشير من عجز عن العمل بالاكمل بان العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما وقوله واستعينوا بالغدوة أي استعينوا على مداومة العبادة بايقاعها في الأوقات المنشطة، والغدوة بالفتح سير أول النهار وقال الجوهري ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، والروحة بالفتح السير بعد الزوال والدلجة بضم أوله وفتحه واسكان اللام سير آخر الليل وقيل سير الليل كله ولهذا عبر فيه بالتبعيض ولان عمل الليل أشق من عمل النهار وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطه امكنته المداومه من غير مشقة وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الاخره وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة..” ‏إن الدين يسر‏”، أي ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله، وفي أفعاله وتُروكه , والدين الإسلامي يسير على من يسَّره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليه، ليس على كل الناس ميسر، بل هو من أصعب الأمور على المنافقين، نسأل الله العافية والسلامة، "‏ولن يَشادَ الدينَ أحد إلا غلبه‏” ‏وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه، بل غلا، وأوغل في العبادات‏:‏ فإن الدين يغلبه، وآخر أمره العجز والانقطاع،ورجع القهقرى فاطلبوا السداد من العمل الأصلح الأقوى و وقاربوا أي: إذا لم تستطيعوا السداد فقاربوا، أي: إذا لم تستطع أن تأتي على الهدف فحول الهدف،إذا أخطأت فيكون قريباً منه، أي: قريباً من الصواب ثم يقول صلى الله عليه وسلم: أبشروا، ما دام أنكم تسددون وتقاربون فمن التسديد والمقاربة أنا إذا أخطأنا تبنا إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا أسأنا استغفرنا ،ثم يرشد النبي الي مايعين علي ذلك بقوله واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، الغدوة: هي أول النهار بعد صلاة الفجر إلى الضحى،وأغلى وقت في حياة المسلم هو ما بعد صلاة الفجر، إذا أراد مهمة أو عبادة أو ذكراً فعليه بذاك الوقت، وإذا أراد أن يطلع في كتاب أو يفهم فعليه بما بعد صلاة الفجر، ومن أراد كذلك أن يخصص وقتاً لقراءة القرآن وتدبره فبعد صلاة الفجر , وإذا أراد عملاً ما، أو سفراً، أو تجارة فعليه بما بعد صلاة الفجر، ولذلك روى الإمام أحمد في مسنده ، عن أبي صخر الغامدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: بارك الله لأمتي في بكورها ، وأيضاً الروحة : قال أهل العلم: الروحة بعد صلاة العصر، ومن لم يستطع بعد صلاة العصر فقبل الغروب،فبعد صلاة الفجر وقبل صلاة المغرب هما أفضل وقت، وأصفى وقت للمسلم ليحاسب نفسه، ويراجع معاملته مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من ذكر وعبادة، وشيء من الدلجة :أي: من الليل، خذوا قليلاً بعد صلاة الفجر، وقليلاً بعد صلاة المغرب، وخذوا قليلاً من الدلجة، وكأنه يقول في السحر؛ لأنها أعظم ساعة تتصل فيها بالحي القيوم تبارك وتعالى ، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: واستعينوا بالدلجة؛ لأنه نهى عن قيام كل الليل، إنما يقام شيء من الليل ، قال تعالى { كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [الذاريات17] وحملها بعض أهل التفسير على أنهم يصلون قليلاً من الليل، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب .
هذه هي قضايا هذا الحديث، يريد صلى الله عليه وسلم أن يقرب إلى الأفهام أن هذا الدين ليس بالمغالبة، وإنما هو باليسر وبالسهولة، وبأخذه بالتي هي أحسن؛ لأن الله تعالى يسره للناس، يقول ابن حجر –رحمه الله- في شرح ترجمة البخاري قَوْلُهُ : ( بَابُ الدِّينِ يُسْرٌ ):” دِينُ الْإِسْلَامِ ذُو يُسْرٍ ، أَوْ سَمَّى الدِّينَ يُسْرًا مُبَالَغَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَدْيَانِ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلِهِمْ . وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَمْثِلَةِ لَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ كَانَتْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ ، وَتَوْبَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ”.
وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-:
” معنى الحديث : النهي عن التشديد في الدين ، بأن يحمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة ، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم :”لن يشاد الدين أحد إلا غلبه”: يعني : أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة ، فمن شاد الدين غلبه وقطعه . وفي ” مسند الإمام أحمد ” عن محجن بن الأدرع قال : ” أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كنا بباب المسجد إذا رجل يصلي قال : ” أتقوله صادقا ” ؟ قلت : يا نبي الله هذا فلان ، وهذا من أحسن أهل المدينة أو من أكثر أهل المدينة صلاة ، قال : ” لا تسمعه فتهلكه – مرتين أو ثلاث – إنكم أمة أريد بكم اليسر "، وفي رواية له :” إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره ” ، وقد جاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا :”إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، ولا تُبَغِّض إلى نفسك عبادة الله ؛ فإن المُنْبَتَّ لا سفرا قطع ، ولا ظهرا أبقى ” ، والمُنْبَتُّ :هو المنقطع في سفره قبل وصوله ، فلا سفرا قطع ، ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السير عليه بعد ذلك ؛ بل هو كالمنقطع في المفاوز ، فهو إلى الهلاك أقرب ، ولو أنه رفق براحلته واقتصد في سيره عليها لقطعت به سفره وبلغ إلى المنزل ” .أ.ه
قال الحافظ السيوطي في شرح هذا الحديث:
” ( إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ ) سَمَّاهُ يُسْرًا مُبَالَغَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَدْيَانِ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُمْ ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَمْثِلَةِ لَهُ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ كَانَتْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ ، وَتَوْبَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ ( وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ) قَالَ ابْنُ التِّينِ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ ، فَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى النَّاسُ قَبْلَنَا أَنَّ كُلَّ مُتَنَطِّعٍ فِي الدِّينِ يَنْقَطِع ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَلَبَ الْأَكْمَلِ فِي الْعِبَادَةِ ، فَإِنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ ، بَلْ مَنَعَ مِنْ الْإِفْرَاطِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَلَالِ ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّطَوُّعِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ ، أَوْ إِخْرَاجِ الْفَرْضِ عَنْ وَقْتِهِ ، كَمَنْ بَاتَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهُ وَيُغَالِبُ النَّوْمَ إِلَى أَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ ، فَنَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، ( فَسَدِّدُوا ) أَيِ الْزَمُوا السَّدَادَ ، وَهُوَ الصَّوَابُ ، مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ ( وَقَارِبُوا ) أَيْ : إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ ، ( وَأَبْشِرُوا ) أَيْ : بِالثَّوَابِ عَلَى الْعَمَلِ الدَّائِمِ ، وَإِنْ قَلَّ ، أَوِ الْمُرَادُ تَبْشِيرُ مَنْ عَجَزَ عَنِ الْعَمَلِ بِالْأَكْمَلِ بِأَنَّ الْعَجْزَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ صُنْعِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصَ أَجْرِهِ ، وَأَبْهَمَ الْمُبَشَّرَ بِهِ تَعْظِيمًا لَهُ وَتَفْخِيمًا ( وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ) أَيِ اسْتَعِينُوا عَلَى مُدَاوَمَةِ الْعِبَادَةِ بِإِيقَاعِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمُنَشِّطَةِ ، وَ” الْغَدْوَةُ ” بِالْفَتْحِ : سَيْرُ أَوَّلِ النَّهَارِ ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَالرَّوْحَةُ بِالْفَتْحِ : السَّيْرُ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَالدُّلْجَةُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِهِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ : سَيْرُ آخِرِ اللَّيْلِ ، وَقِيلَ : سَيْرُ اللَّيْلِ كُلِّهِ ، وَلِهَذَا عَبَّرَ فِيهِ بِالتَّبْعِيضِ ، وَلِأَنَّ عَمَلَ اللَّيْلِ أَشَقُّ مِنْ عَمَلِ النَّهَارِ ، فَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ أَطْيَبُ أَوْقَاتِ الْمُسَافَرَةِ ، فَكَأَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَاطَبَ مُسَافِرًا إِلَى مَقْصِدٍ فَنَبَّهَهُ عَلَى أَوْقَاتِ نَشَاطِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا سَارَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ جَمِيعًا عَجَزَ وَانْقَطَعَ ، وَإِذَا تَحَرَّى السَّيْرَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمُنَشِّطَةِ أَمْكَنَتْهُ الْمُدَاوَمَةُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ ، وَحُسْنُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الدُّنْيَا فِي الْحَقِيقَةِ دَارُ نُقْلَةٍ إِلَى الْآخِرَةِ”
ويقول السعدي -رحمه الله-:”ما أعظم هذا الحديث وأجمعه للخير والوصايا النافعة والأصول الجامعة ، فقد أسّس صلّى الله عليه وسلم في أوله هذا الأصل الكبير ، فقال: "إن الدين يسر” أي : ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله ، وفي أفعاله وتُروكه : فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره : هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب ، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب، وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق وأصلح الأعمال ، بها صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وبفواتها يفوت الصلاح كله ، وهي كلها ميسرة مسهلة ، كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه، عقائده صحيحة بسيطة ، تقبلها العقول السليمة ، والفطر المستقيمة، وفرائضه أسهل شيء : أما الصلوات الخمس : فإنها تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات في أوقات مناسبة لها ، وتمم اللطيف الخبير سهولتها بإيجاب الجماعة والاجتماع لها ؛ فإن الاجتماع في العبادات من المنشطات والمسهلات لها ، ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب للمؤمن أن يستحليها ، ويحمد الله على فرضه لها على العباد ؛ إذ لا غنى لهم عنها، وأما الزكاة : فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب زكوي ، وإنما تجب على الأغنياء تتميماً لدينهم وإسلامهم ، وتنمية لأموالهم وأخلاقهم ، ودفعاً للآفات عنهم وعن أموالهم ، وتطهيراً لهم من السيئات ، ومواساة لمحاويجهم ، وقياماً لمصالحهم الكلية ، وهي مع ذلك جزءٌ يسير جداً بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق، وأما الصيام : فإن المفروض شهر واحد من كل عام ، يجتمع فيه المسلمون كلهم ، فيتركون فيه شهواتهم الأصلية – من طعام وشراب ونكاح – في النهار , ويعوضهم الله على ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم ، وزيادة كمالهم ، وأجره العظيم ، وبره العميم ، وغير ذلك مما رتبه على الصيام من الخير الكثير ، ويكون سبباً لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل الخيرات كلها ، وترك المنكرات، وأما الحج : فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع ، وفي العمر مرة واحدة ، وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن تعداده ، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } [الحجّ:28] أي: دينية ودنيوية، ثم بعد ذلك بقية شرائع الإسلام التي هي في غاية السهولة الراجعة لأداء حق الله وحق عباده . فهي في نفسها ميسرة ، قال تعالى : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة:185، ومع ذلك إذا عرض للعبد عارض مرض أو سفر أو غيرهما ، رتب على ذلك من التخفيفات ، وسقوط بعض الواجبات ، أو صفاتها وهيئتها ما هو معروف، ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل ، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها ، وأراد أن يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد صلّى الله عليه وسلم ، رأى ذلك غير شاق عليه ، ولا مانع له عن مصالح دنياه ، بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها : حقّ الله ، وحقّ النفس ، وحقّ الأهل والأصحاب ، وحقّ كلّ من له حقّ على الإنسان برفق وسهولة، وأما من شدّد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به النبي صلّى الله عليه وسلم ، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه ، بل غلا وأوغل في العبادات : فإن الدين يغلبه ، وآخر أمره العجز والانقطاع ، ولهذا قال :”ولن يَشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه”، فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو ولم يقتصد : غلبه الدين ، واستحسر ، ورجع القهقرى، ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم بالقصد ، وحثّ عليه فقال :”والقصد القصد تبلغوا”، ثم وصى صلّى الله عليه وسلم بالتسديد والمقاربة، وتقوية النفوس بالبشارة بالخير، وعدم اليأس،فالتسديد: أن يقول الإنسان القول السديد ، ويعمل العمل السديد ، ويسلك الطريق الرشيد ، وهو الإصابة في أقواله وأفعاله من كل وجه ، فإن لم يدرك السداد من كل وجه فليتق الله ما استطاع ، وليقارب الغرض ، فمن لم يدرك الصواب كله فليكتف بالمقاربة ، ومن عجز عن العمل كله فليعمل منه ما يستطيعه، ويؤخذ من هذا أصل نافع دلّ عليه أيضاً قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } التغابن:16، وقوله صلّى الله عليه وسلم :”إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم” والمسائل المبنية على هذا الأصل لا تنحصر ،وفي حديث آخر : "يسِّروا ، ولا تعسروا ، وبَشِّروا ، ولا تنفروا”، ثم ختم الحديث بوصية خفيفة على النفوس ، وهي في غاية النفع فقال : "واستعينوا بالغدوة والروحة ، وشيء من الدُّلجة "، وهذه الأوقات الثلاثة كما أنها السبب الوحيد لقطع المسافات القريبة والبعيدة في الأسفار الحسِّية ، مع راحة المسافر ، وراحة راحلته ، ووصوله براحة وسهولة ، فهي السبب الوحيد لقطع السفر الأخروي ، وسلوك الصراط المستقيم ، والسير إلى الله سيراً جميلاً ، فمتى أخذ العامل نفسه ، وشغلها بالخير والأعمال الصالحة المناسبة لوقته – أوّل نهاره وآخر نهاره وشيئاً من ليله ، وخصوصاً آخر الليل – حصل له من الخير ومن الباقيات الصالحات أكمل حظ وأوفر نصيب ، ونال السعادة والفوز والفلاح وتم له النجاح في راحة وطمأنينة ، مع حصول مقاصده الدنيوية ، وأغراضه النفسية، وهذا من أكبر الأدلة على رحمة الله بعباده بهذا الدين الذي هو مادة السعادة الأبدية ، إذ نصبه لعباده ، وأوضحه على ألسنة رسله ، وجعله ميسراً مسهلاً ، وأعان عليه من كل وجه ، ولطف بالعاملين ، وحفظهم من القواطع والعوائق .انتهي.
5-فقه وفوائد الحديث:
1-الِاهْتِدَاءُ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ سَبِيلُ المُوَفَّقِينَ، وَالْعِنَايَةُ بِهَا سَمْتُ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ وَالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْهَانُ المُحِبِّينَ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، فِفِي الِاهْتِدَاءِ بِالسُّنَّةِ حِمَايَةٌ لِلْعَبْدِ مِنَ الْجُنُوحِ إِلَى الْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ، وَوِقَايَةٌ لَهُ مِنَ الْغُلُوِّ وَالْجَفَاءِ، وَبُعْدٌ عَنْ مَوَاطِنِ الْفِتْنَةِ وَالْهَلَاكِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْفِتَنِ سَبَبُهُ اتِّصَافُ الْعَبْدِ بِالْهَوَى أَوْ بِالْجَهْلِ أَوْ بِكِلَيْهِمَا. وَالمُعَظِّمُ لِلْأَثَرِ، المُلَازِمُ لِلسُّنَنِ يَكْبَحُ هَوَاهُ بِالتَّأَسِّي، وَيُزِيلُ ظَلَامَ الْجَهْلِ بِأَنْوَارِ السُّنَّةِ.
2-هَذَا حَدِيثٌ مِنْ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ المُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَالِجُ مَا فِي النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ مِنَ النُّزُوعِ إِلَى الْإِفْرَاطِ أَوِ التَّفْرِيطِ، وَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَعْرِفَتِهِ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي فُتِحَتْ فِيهِ أَبْوَابُ الْفِتَنِ!، قال ابن المنير :”في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة ، فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة ، أو إلى أن خرج الوقت المختار ، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة "انتهى. فليس من الغلو طلب الأكمل في العبادة؛ بل الغلو تجاوز الأكمل إلى ما يؤدي إلى المشقة ونحوها، وليس الجفاء هو طلب الحد الأدنى من العبادة بل هو طلب التخفيف والتسهيل لحد الخروج عن شرعه وتجاوز حدوده باسم الدين، ومن يظن أن إعمال نصوص الشرع تؤدي للغلو، فإنه واهم؛ لأنه لا تلازم بين التمسك بالنصوص والغلو؛ فقد كان الصحابة أشد الناس تمسكاً والتزاماً لنصوص الشريعة مطلقاً ، ومع هذا لم يحصل لهم غلو أو تشديد، إلا في قضايا عينية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أصحابه إليها وعلمهم وبين لهم طريق العبادة المعتدل، فانتهوا
3-الإسلام ذم التشدد والغلو والتنطع وحث علي الرفق واليسر وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من وذم التنطع والإفراط والتشدد في الدين، إن التيسير مَعْلَمٌ من معالم الشريعة الإسلامية ، ومظهر من مظاهرها؛ إذْ أنَّ المُتتبِّع لأحكام الشريعة الغرَّاء في كلِّ أحوالها وجوانبها يُلاحظ التيسير نمطاً سائداً، وهدفاً واضحاً، فالعبادات وما شملته من أحكام, والمعاملات وغيرها كلُّها مبنية على التيسير، بل إننا لا نكون قد تجاوزنا الحدَّ إذا قلنا: إنَّ التيسير من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية, ولعل من أسباب هذا التيسير هو ما اختصَّ الله تعالى به هذه الأمة دون غيرها من خصائص, ومن أهمها: كونها الأمة الخاتَمة التي بها خُتمت الأمم؛ ومن ثَمَّ فليس هناك مجال للاستدراك على أحكامها؛ إذاً تُمثِّل الأمة الإسلامية مرحلةَ الرُّشد في تاريخ البشرية, والتي ببلوغها كمل الدين وتمَّت النِّعمة, ومَوته صلى الله عليه وسلم انقطع الحبل الواصل بين السماء والأرض من النبوة المباركة، لذا جاءت رسالته صلى الله عليه وسلم سهلةً ومُيسَّرة في جميع أحكامها وأحوالها, ولم يُصبها ما أصاب الرسالات السابقة من الآصال والأغلال المفروضة عليهم؛ بسبب ظلم كثيرٍ من أتباعها, وجحودهم, وتلكُّئهم عن الاستجابة لأنبيائهم, فعاقبهم الله تعالى بالتشديد عليهم في كثير من التشريعات, فأصبحت شاقَّة وثقيلة؛ كما قال سبحانه: {مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160]. ،لقد جاء الإسلام آمرا بالاعتدال والاقتصاد والوسطية في كل أمر، حتى ميزت هذه الأمة وخصت بذلك، قال سبحانه وتعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [ البقرة: 143] .وقال سبحانه آمرا بالاستقامة والاعتدال، ناهيا عن الغلو والطغيان: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[ هود: 112]، وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلو ومجاوزة الحد المشروع لنا، فقال عليه الصلاة والسلام ناهيا عن الغلو، مبينا أنه سبب هلاك من قبلنا: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين”، وبين عليه السلام أن هذا المتنطع الغالي المتعمق، المجاوز للحد في قوله وفعله هالك لا محالة فيقول: "هلك المتنطعون” قالها ثلاثا .ويقول سبحانه وتعالى في شأن أهل الكتاب ناهيا إياهم عن الغلو: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً} [ النساء: 171]. ويقول سبحانه وتعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [ المائدة: 77] . ويبين الإمام الطحاوي اعتدال هذا الدين وبعده عن الغلو فيقول: ” وَدِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وهو بين الغلو والتقصير وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَبَيْنَ الأمن والإياس” ، وأمر الشارع الحكيم بالقصد وهو الوسط في العمل؛ فقد بوب البخاري -رحمه الله – في صحيحه باب القصد والمداومة على العمل، في كتاب الرقاق، وذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ” أدومها وإن قلَّ ” ، وقال: ” اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ” ، ومن ذلك ماجاء عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي” يقول ابن حجر في "فتح الباري” (9/277) في شرح الحديث: "الْمُرَادُ مَنْ تَرَكَ طَرِيقَتِي وَأَخَذَ بِطَرِيقَةِ غَيْرِي فَلَيْسَ مِنِّي..”، إلى أن قال وَقَوْلُهُ فَلَيْسَ مِنِّي إِنْ كَانَتِ الرَّغْبَةُ بِضَرْبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ يُعْذَرُ صَاحِبُهُ فِيهِ فَمَعْنَى ” فَلَيْسَ مِنِّي ” أَيْ عَلَى طَرِيقَتِي وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْمِلَّةِ وَإِنْ كَانَ إِعْرَاضًا وَتَنَطُّعًا يُفْضِي إِلَى اعْتِقَادِ أَرْجَحِيَّةِ عَمَلِهِ ، فَمَعْنَى : فَلَيْسَ مِنِّي : لَيْسَ عَلَى مِلَّتِي ، لِأَنَّ اعْتِقَادَ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْكُفْرِ .أ هـ
ويقول ابن القيم:”نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين بالزيادة على المشروع، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ تشديد العبد، على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه إما بالقدر وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يُشدِّد على نفسه بالنذر الثقيل، فيَلزَمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفةً لازمةً لهم” ،وقال ابن القيم:”ما أمر الله عزو جل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين”.
4- لقد جاءت شرائعُ هذا الدين وأعمالُه متمَّمَةً مكمَّلة، وسهلةً ميسّرة، لا يلحَق العبادَ في الإتيان بها عنَتٌ أو مشقَّة، ومَن يتأملْ على سبيل المثال الأمور الخمسة التي بني عليها الإسلام، المذكورةَ في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “بُنِيَ الإسلام على خمس…”، يجد أنها أعمالا ميسَّرة، وطاعات مكمّلة، مشتملة على صلاح العباد وزكاتهم وكمالهم ورفعتهم، ديننا الحنيف رغب في الطاعة والعبادة من صلاة وصيام وجهاد وغيرها من العبادات، ولكن في نفس الوقت أراد الله عز وجل من العبد إذا قام بالطاعة أن يداوم عليها، والتنطع والإفراط والقيام بما لا تطيقه النفس يؤدي إلى الإنقطاع والترك بالكلية، والله عز وجل يحب العمل الذي يداوم عليه العبد وإن كان قليلا، قال ابن حزم: معنى الأَمر بالسداد والمقاربة أنهُ صلى اللَّه عليه وسلم أشار بذلك إلى أنّهُ بعث ميسرا مسهل، فأمر أمته بأن يقتصدوا في الأُمور لأَن ذلِك يقتضي الاستدامة عادة، والتنطع والإفراط والغلو قد يؤدي إلى الخروج من الدين، كما حصل للخوارج الذين غلو في الدين وتنطعوا فيه حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم :” يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ”، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في الدين فقال:”وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ” ؛ فالتنطع والإفراط والغلو في أي شيء يؤدي إلى عكس المراد من فعل الشيء. قال ابن حجر: "الأَولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطِع , بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع”، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينٌ يُسْرٌ، وَأَطْلَقَ الْيُسْرَ فِي الدِّينِ؛ لِيَشْمَلَ كُلَّ الْجَوَانِبِ مِنْ عَقَائِدَ وَعِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، فَيَشْمَلُ يُسْرُهُ كُلَّ عَلَاقَةٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، وَعَلَاقَتَهُ مَعَ نَفْسِهِ، وَعَلَاقَتَهُ مَعَ غَيْرِهِ سَوَاءً كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ كَوَالِدٍ وَوَلَدٍ وَأَخٍ، أَوْ بَعِيدًا عَنْهُ، وَسَوَاءً كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَسَوَاءً كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، فَدِينُ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ ذَلِكَ دِينُ يُسْرٍ ، والأحاديث التي تحث وتأمر بالرفق والتيسير في العبادة كثيرة منها حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ حَتَّى كَثُرُوا فَأَقْبَلَ فَقَالَ :”يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا..” ، وعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال:” دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ مَا هَذَا الْحَبْلُ قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَا حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ”، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ”، إِنَّ الدَّعْوَةَ النَّبَوِيَّةَ إِلَى الْإِيغَالِ فِي الدِّينِ بِرِفْقٍ فِيهَا تَوْجِيهٌ إِلَى عَدَمِ مُشَادَّةِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْإِيغَالَ فِي الدِّينِ بِقُوَّةٍ يُؤَدِّي إِلَى المُشَادَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ إِلَى الِانْقِطَاعِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنَ الدِّينِ،قال ابن تيمية: "خير الأعمال ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع وقد يكون ذلك أيسر العملين وقد يكون أشدهما فليس كل شديد فاضلا ولا كل يسير مفضولا بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة لا لمجرد تعذيب النفس … وأما مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة فليس هذا مشروعا لنا بل أمرنا الله بما ينفعنا ونهانا عما يضرنا وقد قال فى الحديث الصحيح: ” إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”
5-يؤخذ من قوله "واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة” الإستعانة على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة وعبر في الدلجة بالتبعيض لأَن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأَوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه؛ لأَن الْمسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأَوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة. وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الاخرة، وأن هذه الأَوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة.
6-الإسلام دين الوسطية والاعتدال والعدل:
الدين الاسلامي هو دين الرحمة والتسامح والوفاء والصدق دين الاخلاق الحميدة الفاضلة دين الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يقول الله تعالى : «وما أرسلناك الا رحمة للعالمين»،إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَوْصُوفٌ بِالْيُسْرِ فِي كُلِّ المَجَالَاتِ، وَمِنْ نَتَائِجِ الْيُسْرِ فِيهِ: أَنَّ مَنْ شَادَّهُ فَهُوَ مَغْلُوبٌ “وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ” فَمِنَ المُشَادَّةِ فِي الدِّينِ: أَنْ يُضَيِّقَ وَاسِعًا، وَأَنْ يُحَرِّمَ مُبَاحًا، أَوْ يُوجِبَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنْ يَجْعَلَ الظَّنِّيَّاتِ قَطْعِيَّاتٍ، بَلْ يَقْطَعُ بِأَوْهَامِهِ فَمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فِيهَا رَمَاهُ بِالْكُفْرِ أَوِ الْبِدْعَةِ أَوِ الْفِسْقِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِنَّمَا ضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَأَنْ يُسَارِعَ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا يَقْبَلُ عُذْرَ المَعْذُورِ، وَلَا يُزِيلُ تَأْوِيلَ المُتَأَوِّلِ، وَلَا يَرْفَعُ جَهْلَ الْجَاهِلِ، بَلْ يُشَادُّ الْجَمِيعَ فِي دِينِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ ، وبعد أن وضع النبي صلى الله عليه وسلم هاتين القاعدتين أمر المسلمين بالسداد في القول والعمل، والمقاربة فيها عدم التمكن من السداد، فقال: "فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا”، أي: الزموا السداد في جميع أمور الدين والدنيا بقدر وسعكم وطاقتكم، والسداد هو الصدق مع الله، ومع النفس، ومع الناس في الأقوال والأفعال والنيات، وإصابة الحق في جميع الأحوال، والتزام العدل في الأحكام، ووضع الأمور في موضعها من غير قصور أو تقصير، كل هذه المعاني مرادة بقوله صلى الله عليه وسلم : "فَسَدِّدُوا” وهو تفسير لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (سورة الأحزاب: 70-71)، فالسداد هو التزام طاعة الله – تعالى – والوفاء بعهده على أكمل وجه بقدر الطاقة البشرية، ويليه المقاربة في ذلك عند العجز عن السداد بمعناه الأمثل، وقد يكون معنى المقاربة التوسط في الأمور، يقال: فلان قارب الهدف، أي انتهى إليه. فيكون التعبير بالمقاربة كناية عن الوصول للهدف من أيسر طريق وهو التزام الوسطية، والوسطية هي العدل في أسمى صوره، وهي فضيلة بين رذيلتين، الإفراط والتفريط
7-المفهوم الخاطئ ليسر الاسلام عند الناس:

"إن الدين يسر”، فهذا مفهوم يسر الشريعة، الكثيرون يفهمون يسر الشريعة أن تأكل الربا ولا تتشدد، وأن تسمع ما يحلو لك، وأن تنظر إلى ما يحلو لك من الحرام، وأن زوجتك ربما تجلس مع الرجال وتختلط معهم وتتبرج، وإذا ذكرت لهم قال الله، قال رسوله، قالوا: لا تضيق على نفسك، بل إذا أراد الإنسان عند هؤلاء أن يسأل، أو أن يستفتي يود معرفة الحكم قالوا: أنت مشدد وموسوس، ومتنطع ومتزمت، صار التزمت في ملازمة الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمقصود أن الدين يسر بمعنى أن الإنسان لا يكلف نفسه أموراً ترهقه لم يطالبه الله -عز وجل- بها، مثل ماذا؟ مثل إنسان أراد أن يصوم الدهر، نقول له: لا، فحقيقة اليسر: هي اتباع الدليل، فحقيقة اليسر هي اتباع الدليل، فما دل عليه الدليل الشرعي علمنا أنه هو اليسر، وإن ظهر في نظرنا القاصر خلافَ ذلك، وليس اليسر: أن نختار ما نراه يسرا في عقولنا، ثم نبحثَ في أقوال المفتين والفقهاء عما يوافقه، فهذا إنما هو اتباع الهوى، علينا أن نستحضر ونتيقن: أن شرع الله تعالى في حقيقة الأمر هو شرع ميسر، وهو شرع رحمة، ولكن البلاء إن وُجد فإنما هو من ضعف إيماننا، ومرض قلوبنا، حينما نوقن بذلك فالنتيجة هي أن نعتني بإصلاح هذه القلوب، بدلا من أن نحاول ونلجأ إلى إدخال التخفيفات والتسهيلات على الأحكام الشرعية، الذي نقع فيه أحيانا: أننا عندما نجد ثقلا في بعض الواجبات، نلجأ إلى حلول غير صحيحة، لتخفيف هذا الواجب، أو التخلص منه، كالبحث عن رخص أو فتاوى ملائمة، مع أن المسلك الصحيح: هو علاج هذا القلب، الذي إذا صح وسلم شعَر بيسر الشريعة، بل وجد الحلاوة فيها، بل علم أنها هي حياته، ديننا -بحمد الله- يسر كله منذ أن أنزله الله، فليس بحاجة إلى تجديد أو إصلاح، لكنه بحاجة إلى نفوس قوية بقوة الإيمان، تحمله بقوة، تستقيم عليه وتجاهد في سبيله، وأما البشر، فتصورهم عن اليسر تصور قاصر، محدود بحدود الجهل والهوى؛ ولهذا اقتضت رحمة الرب الرحيم أن أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ ليهدوا البشر إلى يسرهم الحقيقي عاجلا وآجلا، ثم جعل العلماء الربانيين الصادقين ورثة الأنبياء، وجعلهم أدلاّء على الحق، فهم لا يجتمعون على ضلالة، وإذا اختلفوا فهم مأجورون ومعذورون في اختلافهم، وفي اختلافهم حكمة ربانية، ليظهر من الناس من قصده طلب الحق واتّباعه، ومن قصده اتباع هوى نفسه والبحث عما يوافق هواها من الآراء والأقوال فنحتاج أن ندرك هذا المعنى، حقيقة معنى يسر الشريعة.
8-امتد التيسير من النصوص الشرعية إلى القواعد الفقهية التي تُبنى عليها الأحكام وذكر العلماء من هذا الحديث العظيم عدة قواعد منها :
القاعدة الأولى: التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم .
القاعدة الثانية: المشقة تجلب التيسير وقت حصولها .
القاعدة الثالثة: إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.
القاعدة الرابعة: تنشيط أهل الأعمال ، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال .
القاعدة الخامسة: الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله ، التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء ، فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها "انتهى.
وفي الخاتمة: حاصل الأمر: أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ـ، فما شدَّد فيه التزمناه على شدَّته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا، فليس على سُنَّته، ولا على منهاج شريعته، في الصحيحين عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ، فَوَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً”
فأحمد الله مصلياً على … محمَّدٍ خير نبيٍّ أُرسلا
وآله الغرَّ الكرام البررة … وصحبه المنتخبين الخيرة

———–

– أستاذ بأكاديمية بنيان – ليباك – اندونيسيا
-هذه المقدمة البليغة مستلةً من : مقدمة السمين الحلبي–رحمه الله- لكتابه: ” عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ”،(1/37).
-أخرجه البخاري في "صحيحه” في( كتاب الإيمان ، باب الدين يسر ) (1 / 17) برقم: (39) ، والنسائي في "المجتبى” في ( كتاب الإيمان وشرائعه ، باب الدين يسر ) (1 / 974) برقم: (5049 / 1) ، والبيهقي في "السنن الكبرى” في( كتاب الصلاة ، باب القصد في العبادة والجهد في المداومة ) (3 / 18) برقم: (4817) ، وابن حبان في "صحيحه” في ( كتاب البر والإحسان ، ذكر الأمر بالغدو والرواح والدلجة في الطاعات عند المقاربة فيها ) (2 / 63) برقم: (351)
-للحديث شواهد عن عدد من الصحابة فمنها حديث أبي هريرة الدوسي، وحديث أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، فأما حديث أبي هريرة الدوسي، أخرجه البخاري في "صحيحه” (7 / 121) برقم: (5673) ،ومسلم في "صحيحه” (8 / 16) برقم: (2574) ولفظه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: وَلَا أَنَا ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ ، سَدِّدُوا ، وَقَارِبُوا ، وَاغْدُوا ، وَرُوحُوا ، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا،وأما حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري في "صحيحه” (8 / 98) برقم: (6464) ، ومسلم في "صحيحه” (8 / 141) برقم: (2818) ، ولفظه: عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ أَدْوَمُهَا إِلَى اللهِ وَإِنْ قَلَّ .
-الحديث رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وأحمد، عن صخر بن وداعة الغامدي
-أخرجه أحمد في "مسنده”، (5/32) وحسنه محققو المسند.
– "مسند أحمد ” (3/479)
-أخرجه البيهقي في ” السنن الكبرى "، (3/19)،وضعفه الألباني في ” السلسلة الضعيفة ” (1/64)
– ينظر:” فتح الباري "، لابن رجب (1/136-139)

– ينظر: "سنن النسائي بشرح السيوطي” (8/122)
ينظر:” بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار ” (ص/77-80)

– هو: أحمد بن محمد بن منصور الجذامي الإسكندراني، ابن المنير، ولد سنة 620 هـ، له مصنفات مفيدة، وتفسير نفيس، توفّي ابن المنير سنة 656 هـ.[ينظر:” الوافي بالوفيات” (8/ 128)، و”شذرات الذهب” (5/ 381)]
ينظر:” فتح الباري ” لابن حجر (1/94)
– ينظر: التحذير من الغلو في ضوء القرآن والسنة، أ. د. بدر بن ناصر البدر، مؤتمر ظاهرة التكفير (5/ 2573).
– بحث منشور في موقع :”ملتقي الخطباء”، بعنوان: الدِّين يُسْر ، د. محمود بن أحمد الدوسري، بتاريخ : 16/1/1434هـ
– ينظر:”متن العقيدة الطحاوية بتعليق الألباني”،(ص:86)
– رواه البخاري في كتاب الرقاق باب القصد والمداومة على العمل برقم (6011)، ورواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم برقم (1311).
– رواه مسلم في كتاب الصيام باب النهي عن الوصال في الصوم برقم (1854).
– أخرجه البخاري في "صحيحه” في ( كتاب النكاح ، باب الترغيب في النكاح ) (7 / 2) برقم: (5063) ومسلم في "صحيحه” ( كتاب النكاح ) (4 / 129) برقم: (1401)
-ينظر:”إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان”، لابن القيم ،(1/132).
– أخرجه أحمد في "مسنده” (6 / 3429) برقم: (16182) ، والحاكم في "مستدركه” (4 / 427) برقم: (8409) ، وقال الهيثمي في ” مجمع الزوائد ومنبع الفوائد”، (4 / 14) :رجاله رجال الصحيح .

-بحث منشور في موقع:” موقع نصرة رسول الله”، بعنوان: إن الدين يسر، الدكتور/ محمد بكر إسماعيل.
-بحث منشور في "ملتقي الخطباء”، بعنوان : حقيقة يسر الشريعة، عبد الله بن فهد القاضي
– ينظر:”إعلام الموقعين عن رب العالمين”، (4/50-51)
-” بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار ” (ص80)
-ينظر:” المفهم "، للقرطبي(6 /150)
– أخرجه البخاري في "صحيحه” (8 / 26) برقم: (6101) ، ومسلم في "صحيحه” (7 / 90) برقم: (2356)
-مقتبسةً من ختام ” ألفية ابن مالك”، (ص:80)

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of