لا تخلو حياة أي مؤمن من الابتلاءات والمصائب والمحن والتجارب ومن المد والجزر والارتفاع والانخفاض. وكل هذه الأشياء تمنح الإنسان فكرة جيدة وتجربة مفيدة و نصيحة جديدة في ما بقي من عمره و حياته، ومع كل هذا تزداد الحسنات والدرجات في ميزانه حتى وإن ابتلي بشوكة يشاكها كما قال عليه الصلاة والسلام: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه”. متفق عليه.
فالمستدل من هذه الرواية أن المؤمن إذا أصيب بشوكة أو ابتلي بمصيبة يؤجر على ذلك. وبعض الأحيان تكون هذه الابتلاءات من عند الله لمعرفة الأكرم والأحسن من غيره، فيقول الله تعالى في سورة الملك الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} (سورة الملک:۲)
ومن مقاصد و الابتلاءات والامتحانات معرفة الصابرين من العاجزين وتمييز المجاهدين من القاعدين فيقول الله تعالى في سورة محمد {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} (سورة محمد : ۳) وقال أيضًا مبينًا أقسام الابتلاءات وأنواعها ومبشرًا الصابرين على هذه الابتلاءات (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} (سورة البقرة: 155-156 ) ثم بشر الصابرین بالأجر الجزيل والمغفرة والرحمة لهم وأنهم من الذين اهتدوا فكانوا فائزين، فقال: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئک هم المهتدون} (سورة البقرة: 157).
وإذا ألقينا نظرة على التاريخ رأينا أن الكثير من الأنبياء والصحابة والتابعين والأسلاف والعلماء والأئمة قد ابتلوا بلاءً شديدًا، وقد امتحن الله قلوبهم للتقوى!!
فنوح عليه السلام ابتلاه الله بدعوة قومه ليلًا ونهارًا واستكباره قومه، وعدم الاستماع والقبول، فنجاه الله من الكرب العظيم.
وهكذا يبتلي الله أيوب عليه السلام حين يمرض مدة (۱۸) سنة فقال في سورة ص { واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } سورة ص:41) ولكن مع هذا يصبر أيوب عليه السلام وينيب إلى ربه تعالی فقال عز وجل {إنا وجدناه صابر انعم العبد إنه أواب} (سورة ص:44)
وهكذا يمتحن الله زكريا عليه السلام حيث يجعله فردًا بلا ولد، فقال زكريا عليه السلام كما حكاه الله في أحسن الكلام { رب لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} (سورة الأنبياء: ۸۹-۹۰) فوهب الله له یحیی علیه السلام بعد مدة من الزمن، وطول من الوقت، وبعد ما غلب على زكريا عليه السلام الشيب كما قال تعالى في سورة مريم (قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا ولم اكن بدعائك رب شقيًا} (سورة مريم:4)
ويمتحن الله يوسف عليه السلام حين يسجن لمدة سبع سنوات فيسألونه عن تعبیر الرؤيا، فيبدأ بالدعوة إلى الله كما قال تعالى { يا صاحبي السجن أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} (سورة يوسف: ۳۹) وحين يفارق والده يعقوب عليه السلام، وحين يكون في البئر وحده في ظلام بهیم، لا أحد يواسيه… وحين تغلق مرأة العزيز الباب عليه وتقول له: (هیت لك)، فیقول: معاذ الله، وحين يشتاق للقاء أخيه بنیامین.
ويبتلي الله يعقوب عليه السلام حين ذهب إخوة يوسف عليه السلام به وألقوه في غيابة الجب وكذبوا على أبيهم بأن الذئب قد أكل أخاهم يوسف عليه السلام، وحين يطول الزمن على يعقوب عليه السلام على لقاء ابنه يوسف عليه السلام فيذهب بصره من شدة البكاء وكثرته، ومع هذا يشكو بثه وحزنه إلى الله كما قال عز وجل في سورة يوسف { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} (سورة يوسف: 86)، وبعد مرور زمن الصبر الطويل على هذه الابتلاءات يرتد بصيرًا، ويفرح بلقاء ابنه يوسف عليه السلام.
وإبراهيم عليه السلام ابتلاه الله بلاءً شديدًا، وحياة إبراهيم عليه السلام مضت كلها في الابتلاءات والامتحانات. ولنا دروس وعبر في حياته عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
فخاض وتأمل كثيًرا في الإله، فعندما رأى الكوكب قال هذا ربي، فلما غاب قال: لا هذا ليس بربي، فلما رأى القمر قال هذا ربي، فلما أفل قال: لا هذا أيضا ليس بربي، وبعد تأمل شدید وخوض في الأمر، قال في النهاية: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين} (سورة الأنعام:۷۹)
وهكذا يكسر أصنام قومه المشركين وعندما عرف المشركون أن إبراهيم عليه السلام فعل هكذا بأصنامهم جمعوا له أحطابًا و أخشابًا وحرقوها وأضرموها بالنار وبعد أن اشتعلت النار ألقوا إبراهيم عليه السلام فيها ليحرقوه؛ ولكنه نجح في هذا الابتلاء وتوكل على الله وحده، وأيقن أن الله سينجيه من شرورهم وفتنهم، فقال الله تعالى: {قلنا يا نارکوني بردًا وسلامًا على إبراهيم} (سورة الأنبياء: ۱۹) فلم يشترط للنار البرد فقط بل اشترط بشيء آخر: وهي السلامة لإبراهيم عليه السلام فيجد النجاح من الامتحان.
الأولاد نعمة عظيمة وأحب النعم إلى الإنسان المتزوج، وأغلى شيء عنده في حياته، ولكن الله لم يهب إبراهيم عليه السلام أي ولد حتى يئس وظن أنه سيكون وحيدًا بلا ولد فيهبه الله إسماعيل عليه السلام بعد مرور زمن طويل وبعد مدة من اليأس، ولكن عندما بلغ إسماعيل عليه السلام السعي أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام في المنام أن يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، كما قال تعالى في سورة الصافات: {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحک فانظر ماذا تری} (سورة الصافات :۳۲)، واستعد ابن إبراهيم أي إسماعيل عليه السلام للذبح وقال: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } (الصافات: ۱۰۳) ثم يخرج إبراهيم عليه السلام بابنه للذبح وللنجاح في الابتلاء، فيفديه الله بكبش عظيم كما قال: {وفديناه بذبح عظيم} (سورة الصافات: ۱۷) فيفوز أيضًا في هذا البلاء العظيم المبين كما أكد عليه القرآن أن هذا البلاء كان امتحانًا عظيمًا : {إن هذا لهو البلاء المبين} (سورة الصافات:106).
فيا أيها الحاملون لواء القرآن والسنة، ويا أيها الباحثون عن الخلود في الجنة والنجاة من النار: علينا الاستعداد ليوم الرحيل، ولا خوف ولا فزع من الابتلاءات لأن هذا أيضا سبب للنجاة و النجاح، و مورث السعادة والفلاح وزيارة الأجر، ومدرب على الصبر.
أيها الإخوة: الأنبياء ابتلوا وامتحنوا ولم ينجوا من الابتلاءات والمحن، مع أنهم أنبياء لهم مرتبة عظيمة ومنزلة رفيعة، فأين نحن منهم؟ وماهي منزلتنا أمامهم، ولماذا نفزع ونخاف من الابتلاءات والمحن؟ مع أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، مليئة بالمصائب والفتن للمؤمنين و مزخرفة لتضليل المسلمين! وهل ابتلينا مثل ابتلاءات الأنبياء؟ نعم وأكيد الجواب بــ (لا) فلماذا ……..؟ { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصرالله قريب} (البقرة:214)
أسأل الله الخير والصلاح، والسعادة والفلاح، والنجاة و النجاح.
أحسنتم النشر، الله يجزيكم خيرا.