كُتُبُ المُسْتَدْرَكَات: نَشْأَتُها وتَطَوُّرُها وأهميَّتُها ومَناهِجُ التَّأْليف فيها

فاروق عبد الله النَّرَايَنْفُورِي الحديث وعلومه

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين, أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, وبعد.
هذا بحث مختصر في التعريف بــ «كتب المستدركات» ونشأتها وتَطَوُّرها وأهميَّتها ومناهج التأليف فيها, أسأل الله تعالى أن ينفعَ به المُشتَغِلين بعلم الحديث وغيرَهم, ويَجعَلَه في ميزان حسناتي, إنه بكل جميل كفيل.
"المستدرك” لغة:
اسم مفعول من "الاستِدْراك”, قال ابن فارس: "الدَّال والرَّاء والكاف أصل واحد، وهو لُحُوق الشيء بالشيء, وَوُصُولُه إليه”. [«مقاييس اللغة» (2/269)]
قال محمد مُرتَضى الزَّبِيدي: "واسْتَدْرَكَ ما فاتَ، وتَدَارَكَه بمعنى, واسْتَدْرَكَ عليه قولَه: أصْلَحَ خطأه، ومنه المُستدرَك للحاكم على البخاري”. [«تاج العروس» (27/144)]
يتبيَّن من قوله -رحمه الله- معنى الاستدراك عند أهل اللغة, لكنَّ قوله "ومنه المستدرك للحاكم على البخاري” يُثِير شُبهة أن الحاكم أصْلَح خطأ الإمام البخاري رحمهما الله, والحقيقة أن عمل الحاكم يدلُّ على الأمر الأول فقط, وهو استدراك ما فات البخاريَّ ومسلمًا في صحيحَيْهِما, أما إصلاح الخطأ فلا يدل عليه عمله, والله أعلم.
فلعلَّ كُتُب المُستَدرَكات سُمِّيَتْ بذلك؛ لكون المُسْتَدْرِك يُلحِق الأحاديثَ بالأحاديث المُمَاثِلَة لها, ويُكمِل ما فاتَ المُسْتَدْرَكَ عليه.
فَكُتُب المُستَدرَك في اصطلاح المُحدِّثين:
كلُّ كتاب جَمَعَ فيه مُؤلِّفُه الأحاديث التي ألْحَقَها بكتاب آخر، مِمَّا فاتَتْهُ على شرطه. [«تيسير مصطلح الحديث» لمحمود الطَّحَّان (ص210), و«الحديث والمحدثون» لمحمد أبي زهو (ص407)]

نشأة التأليف فيها, وتَطَوُّرُها:
ظهر التأليف في هذا النوع من المُصَنَّفات الحَدِيْثِيَّة في القَرن الرابع الهجري, حيث ألَّفَ الإمام الدارقطني رحمه الله (ت385هـ) رسالة لطيفة سمَّاها «الإلْزَامَات». [«الرسالة المستطرفة» للكِتَّاني (ص23)]
استَدْرَكَ –رحمه الله- فيها على الشَّيْخَيْن أسانيدَ خَرَّجا لها، ووَجَد مثلَها ولم يُخَرِّجَاها, أو أحاديثَ بأعْيَانِها على شرْطِهما, أو رُوَاةً ثقاتٍ خَرَّجا لمثلهم أو مَن هو دونهم؛ فألْزَمَهُما تَخريجَها, وذكر فيها سبعين حديثًا فقط.
والمقصود من شرْط الشيخَيْن أو أحدِهما: أن يكون إسناد الحديث مُحْتَجًّا برُوَاتِه في الصحيحَيْن أو أحدهما على صورة الاجتماع, سالِمًا من العِلَل, ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في «النكت على كتاب ابن الصلاح» (1/314).
ثم تَطَوَّرَ تصنيفُها في نهاية القرن الرابع عندما ألَّفَ أبو عبد الله الحاكمُ (ت405هـ) أشْهَرَ كتابٍ في هذا النوع وأكبَرَهُ «المُسْتَدرَكَ على الصحيحين», فاستَدرَك فيه على الصحيحَيْن بمجموعة من الأحاديث حَكَمَ أنها على شرط الشيخَيْن أو أحدِهما, ورتَّبها ترتيبًا فقهيًّا, وأضافَ إليها أحاديثَ مُسْتَوْفِيةً لشروط الصِّحَّة -عنده- وإن لم تَكُنْ على شرط أحدٍ منهما, بل أحاديثَ مُعَلَّةً أيضًا, وبَيَّن علَّتَها.
ثم جاء مَن بعدَهما واسْتَخْرَجَ على كتابَيْهما, إلى أن وَصَلَ الأمر إلى القَرن الرابع عشر الهجري واستَمَرَّ التأليف فيه, فظهر كتاب «الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين» للشيخ مُقْبِل الوَادِعِي (ت1422هـ) في سِتِّ مُجلَّدات, فاستدرك على الشيخَيْن ما فاتَهما من الأحاديث الصحيحة, سواء كانت على شرط الشيخَين أو لم تَكُنْ, سواء ذكَرَها الحاكم أو لم يَذكُرْها, وأضافَ على السَّابقِين بتخريج تلك الأحاديث تخريجًا مُفصَّلًا, ثم ظَهَرَ كتاب آخر باسم «الجامع الصحيح فيما كان على شرط الشيخَيْن أو أحدِهما ولم يُخَرِّجَاه» لأبي عبد الرحمن يوسف بن جُوده الدَّاوُدِي, وزادَ أمْرَيْن على مَن تَقَدَّمَه:
(1) سَنَد شرْط الشَّيخَيْن بعد كل حديث يُورِده
(2) الفوائد المُستَفَادة من الحديث.

أهميَّة كُتُب المُسْتَدرَكات:
تَظهَر أهميَّة كُتُب المُسْتَدرَكات من خلال العَناصر الآتية:
أ – أنها تَزيد في عدد الأحاديث الصحيحة؛ لأنَّ أصحابها يَشتَرِطون الصِّحَّة, ويَستَدْرِكون على الصحيحَيْن ما فاتَهما على شرْطهما, وإن كان في صحَّة كثير منها نِزاعٌ بين أهل الفن.
ب – الأصل أنها من المصادر الأَصِيلة التي تَروي أحاديث النبي  بأسانيدها, مما يُمَكِّنُ الباحثَ من دِراستها ونَقْدها والحُكْم عليها, ويُلحق بها في الفائدة المصادر الثانوية.
ج – سُهولة الوقوف على مجموعة من الأحاديث الصحيحة -عند أصحابها- في موضوع مُعيَّن في مكان واحد؛ لأنها مُرتَّبَة على الأبواب الفقهيَّة غالبًا.
د – أنها تُفيد في معرفة شرط الشيخَيْن, وتُنبِئ عن مكانة الصحيحَيْن بين كُتُب الحديث.
هـــــ – معرفة أحكام العلماء على الأحاديث الواردة في تلك الكُتُب.

مناهج التأليف في هذا النوع:
تَنَوَّعتْ مناهج المؤلفين في هذا النوع, وبيانها كالآتي:
أ – تَرَاجُم الكتاب: اعتنى الجميع بذكر التَّراجُم لأحاديثهم, إلا الدار قطني؛ فإنه ليس عنده تراجُم, بل سَرَدَ الأحاديث سَرْدًا.
ب – الترتيب: رَتَّبَ الجميع كُتُبَهم على الترتيب الفقهي, مُتَّبِعِين في ذلك طريقةَ الشيخَيْن غالبًا, فأدْخَلوا أحاديث الأحكام وغيرِها, إلا الدار قطني؛ فإنه لم يَظهَرْ لي ترتيب مُعَيَّن عنده.
ج – ذكر الأسانيد: أخْرَجَ المُتَقَدِّمُون أحاديثهم بأسانيدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم, إلا الدار قطني؛ فإنه يَذكُرها مُعَلَّقًا عن بعض رُوَاته الذي يَحصُل به مقصوده, ولا يَسُوقُه كاملًا, أمَّا المُعَاصِرون فيَذكُرونها من أحَد الكُتُب المُسْنَدَة, ثم يُخَرِّجونها تخريجًا.
د – متن الحديث: اعتنى الجميع بذكر متن الحديث كاملًا, إلا الدار قطني؛ فإنه يذكره أحيانًا ويُغفِله أخرى.
انظر مثلًا: «الإلزامات» (ص68), ذكر فيه طَرْفًا من المتن, وانظر: (ص77-80), اكتفى على ذكر الإسناد دون المتن.
هـ – الالتزام بشرط الشيخين أو أحدهما: اهتَمَّ الجميع أن يَذكُروا أحاديثَ فاتَتِ الشَّيخَيْن على شرْطِهما أو شرْطِ أحدِهما, إلا أن الدار قطني ألْزَمَهما إخراجَ أحاديثِ أقوامٍ خرَّجا لمثلهم أو مَن هو دونهم أيضًا, والحاكم أَخْرَج عددًا من الأحاديث ليس على شرْطِهما, إذا وَجَدَها مُسْتَوْفِيَةً لشروط الصِّحَّة, وكذلك الشيخ مُقْبِل الوَادِعي اكتفى أن يكون مُسْتَوْفِيَةً لشروط الصحة سواء كانتْ على شرْط الشيخَين أو لم تَكُنْ.
و – فوائد الحديث: لم يَعْتَنِ بذلك إلا الشيخ يوسف الدَّاوُدي فيما أعلم, وإن كان الحاكم يُشِير إلى بعض الفوائد أحيانًا وأحيانًا.
انظر مثلًا: «المستدرك» (1/189) رقم الحديث (363), و (1/208), و(1/211) رقم الحديث (423).

من المُؤلَّفات المطبوعة فيها:
«الإلزامات» للدار قطني, و«المستدرك على الصحيحين» لأبي عبد الله الحاكم, و«الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» لمقبل الوادعي.

هذا ما تيسر جمعه, وترتيبه, والحمد لله أولًا وآخرًا, وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of