كالعادة أديت صلاة الظهر في المسجد الحارثي بمكة المكرمة ، وذلك يوم الخميس، الخامس من مارس 2020، ورجعت إلى شقتي، وجلست مع أمي الحبيبة الكريمة، إذ وصلني خبر مؤلم عن وفاة العلامة الدكتور محمد لقمان السلفي، رحمه الله رحمة واسعة وأدخله في فسيح جناته، فكان الخبر كصاعقة هزّت كياني هزّاً، ولم يكن لي سبيلاً إلا الصبر والاحتساب، فقلت:«إنا لله وإنا إليه راجعون»، واتصلت بالإخوة الأفاضل: الشيخ حفظ الرحمن التيمي والشيخ ثناء الله التيمي، لنرتب السفر إلى الرياض، لتقديم العزاء والمشاركة في الجنازة والتدفين. ومن ثم استفسرت من أسرة الفقيد عن ترتيبات التدفين، فأفادوني أنه حسب وصيته سوف ينقل جثمانه إلى الحرم المكي لصلاة الجنازة عليه إن شاء الله.
بدأ محبوه يقدمون التعازي للفقيد على وسائل التواصل الاجتماعي حتى صارت كما أنها مليئة بنعيه، فكان ذلك دليلاً -ولله الحمد- على السُّمعة الحسنة والميزة الطـيّبة التي كان يتحلى بها. و إنه كان يملأ حياتي وحياة التيميين والتيميات والدعاة والعلماء بابتسامه المثالي وعطفه الغالي، وكان يستقبل الناس ويرحبهم في جامعة الإمام إبن تيمية في الهند وفي بيته ومكتبة بالرياض طوال حياته ترحيبا حارا. اللهمّ اغفر له وارحمه واجعل قبره روضةً من رياض الجنة. يا حيّ يا قيوم.
فقدت الأمة الإسلامية بوفاة العلامة، علَماً من أعلام الدعوة الإسلامية، وداعية من الدعاة المعروفين الذين حملوا على كواهلهم مسئولية الحفاظ على تراث هذا الدين و خدموا في مجال الحديث والتفسير والعقيدة والسيرة النبوية والأدب العربي والترجمة والمناهج الدراسية للمدراس والجامعات الإسلامية ونشر العقيدة الحقة.
كان العلامة في الأمة بمثابة مصباح يهتدي به السالكون في الدياجي، ويستضيء به التائهون في الظلمات،وكان نجما هاديا لمن سار في الظلمات المظلمة، وكان كالغيث المدرار يأتي على الأرض الهامدة فتهتز وتربو، ثم تنبت من كل زوج بهيج.
كان طالبا مثاليا مجدا ذكيامنذ دراسته الابتدائية إلى تخرجه في دارالعلوم الأحمدية السلفية بدربنجة حيث أكمل المتوسطة والثانوية العالمية والفضيلة، وإلى التحاقه بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وغيرها، وكان أساتذته يقدرونه ويشجعونه على مواظبته في الدروس، واهتمامه بالفصول الدراسية، واستماعه للمحاضرات وما إلى ذلك،وحصل الشيخ درجة قياسية في نتيجة إختبارات لجنة ولاية بيهار المدرسية، فجاء بهذا الخبر من بتنا جدي لأمي العلامة ظهور الرحماني رحمه الله، ولم يدخل من الباب الرئيسي لدارالعلوم الأحمدية السلفية بدربنجة، إلا أعلن بشرى إنجازه وتميزه وحصوله الدرجة القياسية، وقال بصوت عال: حصل لقمان على درجات في الاختبار الحكومي للجنة المدارس الحكومية لولاية بيهار لم يحصل عليها أي واحد في السنوات العشر السابقة. هذا هو الفقيد، هذا هو العلامة ، هذا هو نبوغه، هذه هي مؤهلاته، نفتخر بك يا شيخنا. تغمده الله بواسع رحمته.
لقد تتلمذ الشيخ على أيدي بعض الأعلام البارزين أمثال العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله، فدرس عليه العقيدة الطحاوية في الجامعة الإسلامية، وحضر دروسه، ولم يزل يستقي من منهله الصافي المستمد من الكتاب والسنة حتى لقي شيخُه ربَّه، والعلامة ناصر الدين الباني، والعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي،والشيخ عبد الرزاق عفيفي،والشيخ تقي الدين الهلال،والشيخ عبد المحسن العباد والعلامة ظهور الرحماني رحمهم الله رحمة واسعة وغيرهم، فصار من فحول العلماء لحركة الكتاب والسنة في الهند.
تتجلى جهود الشيخ العلمية والدعوية في إنجازاته القيمة وأعماله النبيلة التي أتمها عن طريق تأسيس جامعة الإمام إبن تيمية، وكلية خديجة الكبرى لتعليم البنات، ومركز العلامة ابن باز للدراسات الإسلامية، ودارالداعي للنشر والتوزيع، وكل هذه الكليات والمعاهد والمراكز تعبر عن عمله الدؤوب وإخلاصه البالغ وتؤدي خدمات جبارة في إعداد الجيل الجديد ونشر الإسلام الخالص، وتحافظ على الهوية الإسلامية منذ تأسيسها، فخرجت دفعات من العلماء البارزين من هذه الجامعة، وانتشر خريجوها في أرجاء العالم، وسجلوا رقماً قياسياً في مجال التصنيف والتأليف، وهي لاتزال قائمة مثل منارة نور في الليل الدامس.
ثبت الشيخ على الحق كالجبال الراسيات، وقاوم الخطر المُدلهم على الدين والحديث النبوي والعقيدة السلفية الحقة بكل ما أوتي من قوة ووسيلة، ولم يزعزعه عن أعماله ودفاعه عن السنة أشد المحن وأقوى الأعاصير والمؤامرات الخطيرة، وحينما حدثت قضية رسالة مزورة التي انتسبت إلى العلامة في عام 2002، وكانت فتنة كبرى بين المسلمين، وكانت تلهب نار العداوة بين أهل الحديث والديوبنديين، وكان هدفها الأساسي الحد على مسيرة الجامعة والمركز، ولكن مكروا ومكر الله،ونجاه الله والجامعة من هذه الفتنة، ولم تمنعه هذه المؤامرات من هدفه البناء، وجعل يستمر في إنارة دروب الخير وسبل الصلاح والرقي والازدهار في ظل الإسلام الوارف.
كان الشيخ باحثا كبيرا, ومؤلفا بارعا، وأديبا مؤهلا، وكاتبا قديرا، ومفسرا عملاقا،وكان يتشوق إلى التوعية الإسلامية وإشحاذ الحماس الديني في قلوب عامة الناس وخاصتهم،وتربية النشئ الجديد والطلاب الإسلامية، ويستخدم وسيلة التأليف والترجمة في هذا المجال بكل إخلاص وتفاني، كانت أمنيته أن يتمكن طلاب المدراس من اللغة العربية ويجيدوها كتابة وتحدثا، فتحقيقا لأمنيتة الخالصة قدم جهودا مثالية لها، وأعد مقررات لدراسة اللغة العربية لطلاب المدارس الهندية والدول الآسيوية، وسماها: السلسلة الذهبية للقراءة العربية، في إثني عشر مجلدا.
كانت له رغبة أنيقة في مجال الأدب العربي والترجمة، فقام بترجمة المراسلات الشهيرة التي جرت بين العلامة أبي الأعلى المودودي ومريم جميلة، والتي تسببت في اعتناقها بالإسلام، وسماها: رحلة مريم جميلة الأمريكية من الكفر إلى الإسلام،وأشاد بهذه الترجمة العلماء والدعاة والأدباء والأفاضل، وأمر مفتي المملكة العربية السعودية سابقا إلى توزيعها بين الطلاب السعودين الدارسين في الدول الغربية والأوربية، لتوفر لهم معلومات قيمة حول الإسلام وطرق إقناع غير المسلمين، فنال الكتاب قبولا حسنا.
وكان للشيخ شغف كبير في الحديث النبوي الشريف، وكان يختص بهذا المجال المبارك، فخصص بحثه للماجستير والدكتوراه فيه، وأعد بحث الدكتوراه في الحديث النبوي وسماه ب: اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ودحض مزاعم المستشرقين، وأعد بحثه للماجستير وسماه: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، وله مؤلفات أخرى في الحديث النبوي ومنها:”هَدْيُ الثَّقَلَين في أحاديثِ الصحيحين”، و”تُحفَةُ الكِرَام في شرح بلوغ المرام”، و”فتحُ العلَّام شرح بلوغ المرام”، ورشُّ البردِ شرح الأدبِ المُفرد”، ولايفوتني أن أذكر أنني تشرفت بترجمة هذاالكتاب في اللغة الأردية وسماه شيخنا العلامة ب”أخلاقيات مسلم” ويحتوي على أكثر من ألف صفحة.
وله مؤلفات قيمة في التفسير، ومنها: تيسير الرحمن لبيان القرآن في الأردية و”فُيوضُ العلَّام في أحاديث الأحكام”.و له كتاب قيم في الفقه وهو: "السَّعيُ الحثيثُ في فقهِ أهلِ الحديث”، وألف في السِّيرةِ النَبَويَّة في اللغة العربية والأردية ومنها: "الصَّادقُ الأمين”، و”الرحمة المهداة في سيرة سيِّدُ المرسلين، وكذلك”بياري نبي” باللغة الأردية وغيرها.
كان له رغبة أكيدة في الصحافة الإسلامية، فكان يكتب عمودا خاصا لبعض الصحف العربية في المملكة بعد تخرجه في الجامعة الإسلامية، ومن ثم كان يكتب كلمة التحرير لمجلة الفرقان الشهرية بدون انقطاع لسنوات طويلة، وتشرفت أن أترجم مقالاته المذكورة باللغة الأردية وكانت تنشر في مجلة طوبي الأردية لمدة خمس سنوات أو أكثر.
قضى الشيخ العلامة حياته كلها في التأليف والتصنيف وإدارة جامعة الإمام ابن تيمية وكلية خديجة الكبرى، ورفع مستواها العلمي، حتى إن آخر اتصاله كان عن الجامعة الذي أغمي فيه ومن ثم لم يخرج من هذا الإغماء ولم يعد إليه وعيه تماماحتى لقي الله سبحانه وتعالي راضية مرضية، وبعض الأحيان حينما عاد وعيه، خاصة قبل يومين من موته، فكان يلقن الناس والموجودين عنده عن التوحيد ونشره، والصلاة ومواظبته، ويكررالتلقين عنها مرارا وكرارا بصوت عال.
تقبل الله جهوده الغالية وغفر له وأدخله فسيح جناته وجعل قبره روضة من رياض الجنة. آمين يا رب العالمين.
Leave a Reply