نماذج فذة ومشرقة من توقير العلماء بعضهم لبعض

عبد الرحمن لطف الحق مرشد آبادي التعليم والتربية

العلماء هم جمال الدنيا، ونجوم الأرض، ومصابيح الدجى، بهم يستضاء في الظلمات، ويهتدى في المعضلات، ويرجع إليهم في حل المشكلات.
إننا لما نطالع تراجم علمائنا السلف نجد ما كان حالهم مع بعضهم، ونعثر على نماذج فذة مما كان بينهم من حب واحترام، وتعظيم ومحبة.
وإليكم بعض هذه النماذج:
1-جاء عن ابن عباس، أنه أخذ بركاب زيد بن ثابت، فقال له: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فقال: «إنا هكذا نفعل بكبرائنا وعلمائنا»(1).
2- وجاء عن عبيد الله بن عمر أنه قال: كان يحيى بن سعيد يحدثنا فيُسح علينا مثل اللؤلؤ، فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالا لربيعة وإعظاما له (2) .
مع أن يحيى بن سعيد الأنصاري هذا كان يحتل مكانا عليا في العلم والفقه والحديث حتى قال فيه الثوري: كان يحيى بن سعيد الأنصاري أجل عند أهل المدينة من الزهري (3).
3- وبلغ سفيانَ الثوري وهو بمكة مقدم الأوزاعي فخرج حتى لقيه بذي طوى قال فلما لقيه حل رسن البعير من القطار فوضعه على رقبته فجعل يتخلل به فإذا مر بجماعة قال الطريق للشيخ(4).
فلم يملك الحاضرون أنفسهم أمام هذا المنظر الرائق حتى سأل عثمان بن عاصم من هذا الراكب؟ قالوا هذا الأوزاعي فقلت: من هذا الذي يقوده قالوا هذا سفيان الثوري(5).
ومن هو الثوري يا ترى! هذا إمام جبل، وبحر في العلم، وأمير المؤمنين في الحديث، ولم تنجب الدنيا مثله بعد التابعين، وفيه يقول ابن المبارك: : لا أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان الثوري (6).
وفيه يقول: يحيى بن سعيد القطان: وسفيان فوق مالك في كل شئ (7).
لكن انظر إلى إجلاله لإمام مثله بل لعله دونه هذا الإجلالَ الغريب، فهل رأت الدنيا مثل هذا المنظر البهيج قط؟ وأنى لها ذلك!!
4- وجاء في مناقب الإمام أحمد أن محمد بن أَبي بشر قال: أَتيتُ أَحمد بن حنبل في مسأَلة، فقال: ائتِ أَبا عُبيد- يعني القاسم بن سلام- فإِنّ له بياناً لا تسمعه من غيره، فأَتيتُ أَبا عُبيد، فسأَلته فَشفاني جوابه، وأَخبرته بقول أَحمد، فَقال: يا ابن أَخي، ذاكَ رجل من عمال الله، نَشر الله رداءَ عمله في الدنيا، وذَخر له عنده الزُّلفى، أَما تراه مُحَبباً أَلوفاً مألوفاً، ما رأت عَيناي بأرضِ العراق رجلاً اجتمعت فيه خِصالٌ هي فيه؛ فبارك الله له فيما أعطاه من الحِلم والعلم والفَهم (8).
هكذا كان سلفنا الصالح يعظم بعضهم بعضا. فهم القدوة في هذا الباب.
5- وهذا الشيخ المعلمي- الذي أثنى عليه الشيخ أحمد شاكر والألباني ثناء عطراً – تعقب على كتاب "تأنيب الخطيب” لمحمد زاهد الكوثري، في كتابه الشهير "التنكيل”، بأسلوب متين، وبروح علمية عالية، ونجد الشيخ المعلمي دائما يذكر الشيخ الكوثري بالأستاذ، وأحيانا بالأستاذ العلامة، ويرد عليه بلطف، ويستعمل له عبارات يسودها الإجلال والتكريم، ولم يخرج عن أدب المناظرة، وطريق المجادلة بالتي هي أحسن، وإني طالعت الكتاب "التنكيل” كاملا فلم أجده يستعمل له عبارات خشنة ولو في موضع واحد.
6- وها هو العلامة ثناء الله الأمرتسري -الذي كان له براعة فائقة في الرد والمناظرة- يناظر الفرق الضالة من القاديانية والمسيحية وغيرها، لكنه يناظرهم بالتي هي أحسن، ويترقرق من كلماته ماء التوقير والتبجيل لمخالفيه، وينبسط إليهم بالكلام.
7- وهذا سماحة الشيخ العلامة ابن باز يُكن للشيخ العلامة الألباني التقدير والمحبة، ويعرف فضله وعلمه، وكان يرسل عليه السلام من بعد، وكذلك العلامة الألباني يجل سماحة الشيخ ابن باز ويضمر له المحبة والتقدير. ومما يشهد لذلك ما جاء أن الشيخ الألباني اجتمع بالشيخ ابن باز في مكة بعد صلاة الجمعة، وكان من عادة الشيخ يوم الجمعة أن يكون له درس في تفسير ابن كثير ويستمر الدرس إلى الساعة الثانية تقريبا، فلما انتهى الدرس أخذ سماحته بيد الشيخ الألباني، وجلسا في ناحية من المسجد، وأخذ يناقش الشيخ ناصرا في بعض المسائل، والشيخ ناصر منصت لسماحته، متأدب معه غاية الأدب، وبعد أن انتهى الحديث قال له الشيخ عبد العزيز: والله يا شيخ ناصر إنني لا أحب أن أسمع عنكم إلا ما يسر، ففرح الشيخ بما سمع من سماحته، ودعا للشيخ (9).
8- وأروع من ذلك ما جاء عن العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي- كما ينقل الشيخ عبد العزيز الرَدّة- أنه يجل الألباني إجلالا غريبا، حتى إنه إذا رآه ماراً وهو في درسه في المسجد النبوي قطع درسه وقام مسلما عليه، إجلالا له (10).
مع أن الشيخ الشنقيطي كان من أعلم أهل زمانه بالفقه والتفسير، وكان بعض مشايخنا من الجامعة الإسلامية يفضله على ابن باز في الفقه.
9- ونرى نماذج مشرقة من هذا التبجيل والاحترام في مؤلفات العلامة محمد إسماعيل السلفي ومقالاته، فإنه ألف في الرد على مقالات الشيخ المودودي وأمين الإصلاحي وغيرهم من العلماء، لكن نجد هذا العالم الرباني أن نقده للأفكار والآراء، وليس للأشخاص، فهو يناقش الآراء مناقشة علمية مع ما يكن لمن يرد عليه من الحب والاحترام. وإني أعتقد لو قرأ الذين رَد عليهم ومتابعوهم لا يملكون أنفسهم من أن يعترفوا بفضله و علمه. وهذا هو السر أن الله نشر رداء قبوله في الدنيا.
لكن أين نحن من هؤلاء الأفذاذ، إننا إذا وقع بيننا الخلاف حتى في الأمور البسيطة أدى هذا الاختلاف إلى شقاق ونزاع، وعداوة وبغضاء بل ربما إلى سب وطعن في الأشخاص، والعياذ بالله، ولا غرو أن هذا من قلة العلم، ورقة الدين، وضعف الإيمان.
فكم نحن في حاجة ماسة إلى أن نتخلق بمثل هذه الأخلاق العالية، وأن نحذو حذو علمائنا السلف.
وأختم كلامي بذكر بيت الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع

الهوامش
() مستدرك الحاكم 3/478، (5785)، هذا إسناد حسن، فيه محمد بن عمرو الليثي وهو صدوق، وباقي رجاله ثقات.
(2) تهذيب الكمال 31/353 .
(3) المصدر السابق.
(4) تاريخ دمشق 35/165 .
(5) نفس المصدر.
(6) الجرح والتعديل 1/56.
(7) المصدر السابق.
(8) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص: 152.
(9) جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز ص: 253 .
(10) الألباني بين غوائل التجني وفضائل الإنصاف للشيخ د. أسامة خياط ص: 6.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of