العزلة في زمن الكورونا والصديق الوفيِّ

جنيد يوسف

اعتزال عن الأهل منذ نعومة الأظفار شيء لا غرابة فيه، لأنه حياة مشبوبة بالعواطف مع الأصدقاء الأخيار يشتركون في مجالات الحياة، ويشارك البعض بعضا في الحديث والأسرار والتعامل في قضايا الحياة معهم تتآلف القلوب بها ولا تشعر بالوحشة والغربة، ولكن العيش في مكان يجمع الشعور بالوحشة والعزلة، والغربة والوحدة. كأننا رجالا علت بهم السنون بحيث آثروا الوحدة واعتزلوا عن الأبناء والأولاد وبدت عليهم سمات التبرم بالحياة. ليس الاختلاط مع الأصدقاء لتستريح القلوب برؤية المناظر البهيجة أو تستلذ الأعين بهذه الظلال الزرقاء فوقهم أو بتناقل الحديث مع الأصدقاء فنقضي أياما وليالي في شبكة في غرفة هادئة مستريحة مرصعة بالأثاث الفاخر، يتوفر فيها احتياج العيش والطرب، منقطعا عن الأناس والأنفاس متعاملين مع الصور والفيديوهات في الصفحات، كل في شبكة لا تظهر فيه الشعور بالعبودية والشعور بالسجن والناس سجين بأنفسهم، وهم في أقفاس سجنت فيها الأحاسيس، وعلقت عقولهم بسبب فيروس الكورونا. ويشعر من آذته هذه العزلة ولا تتعلق مع هذه الصفحات التافهة حياتها كلها وأنا من بينهم مجبرا نفسي فيها يا لها من خلوة يا لها من وحشة!!!!
وهي هذه الأوضاع السيئة التي لا يجد أحد فيها أنيسا وجليسا يصاحبه ويتبادل الحديث معه لكي يخرجه من أسرار الفكر المكدرة لخاطره وباله، وجدت صديقا أقضي الأوقات معه أتحدث إليه وأناقش الأفكار معه، وأبحث حلا لأسرار الحياة فهو صديق يوافيني في العزلة وهو أنيس يهمس في أذني أحاديث الحب والحزن، وهو رفيق يسامرني ليلا حتى أغمر في نوم البحر العميق، وهو دليل يهديني في دروب الحياة، وهديل يسمعني النغمات الحلوة التي تدب في أذني فتساورني بهجة من الفرح والسرور.
وهو الذي من صاحبه بلغ إلى أوج الكمال في العلوم والمعارف، ومن جلس معه فحصل بقدر خلوصه من الحب، وهو الذي يكشف عن أسرار الأبطال وأحداث القرون الغابرة في أغوار التاريخ، وهو التي أحيت ذكريات العباقرة في قلبه من العلماء واللغويين والحكماء والمؤرخين، وهو الذي أثرى الأناس بالكنوز الثمينة من الكلمات والتعبيرات والدرر البهية من الجمل والمصطلحات وهو الذي يغير مجرى الحياة ويزود بالأفكار والأسرار، ويوحي الوجهات الجديدة للعقول الحية وينير نواحي الحياة ليقبل التنوع والخلاف.
لا أجد صديقا مثله فهو يحفز الأخيلة الراقية والقلوب الواعية ويذهب بها ليغمر في الخيالات ويخرج منها اللؤلؤة المكنونة في أغوارها ويستفيد من بهائها وجمالها، ويأخذ من ثمنها باستثمارها، فبذلك تبتكر في تصوير الحياة الجميلة وتأسر قلوب الآخرين بالإبداع والإجادة، فهو أداة المعرفة والثقافة تكتسب بها مما تجهله، فتستطيع أن تطلع عن مقصد الحياة وهذا العالم الكبير والذين يعيشون في هذه الأرض، تعلمك مساحة الأرض وطولها، والنباتات التي تنبت فيها، والحيوانات التي تتنفس فيها، وتعرف العلاقات بينهم ولا تتركك وحيدا فترشدك إلى الطريق الصحيح في الحياة وتأتيك الحل بالمشكلات.
فهو قوة تملكها لتعزز حياتك، وتنمي قدراتك وتقوي مواهبك، وبه تكوّن ذاتك وشخصيتك، وتجعلك تواجه مشاق الحياة وصعوبتها، وتستلذ بحياتك الشخصية والأسرية، وتستطيع الحصول على السعادة والفلاح في الدارين، وبهذه القوة تسلك سبيلا تخلف الإعاقات ورائها وتقطع الطرق التي غبار فيه، وفيها عثار ولكنك تبلغ أهدافك التي استيقظت لها ليلا وأتعبت نفسك نهارا، وأجهدت بدنك ونفسك طوالا.
وهو خير جليس يؤدبك ويعطي درسا بليغا في قمة الأدب على أسمى مناحي الإنسانية، وبه تنبذ القيم السيئة، وتزين بأخلاق عالية وفاضلة وتحليك صديقك هذا بزينة الأدب في غاية الروعة والجمال وتغذي القلوب وترق القلوب القاسية، ترتاح بها النفس وتفتح المشاعر، وتدعم الخير وتوضح لك الشر وتحميك من الأشرار حيث تؤنسك الأخيار فهو معلم ومرشد الحياة.
وهو باب تتطلع من خلاله حياة الآخرين وتقضي حياتهم، وتلتقط أفكارهم، وتقطف أزهار العلوم والمعرفة، وتحيي حياتهم إشارة إلى قول العقاد "أحب الكتاب لا لأنني زاهد في الحياة ولكن لأن حياة واحدة لا تكفيني” وتفكر في تجربتهم وترقى بأرق ما تجد فيهم، وتتعرف على جمال الحياة في القرون الماضية وتقضي حيات تحيط الأناس لم تره ولكن تغور في أعماقهم وفي أسرارهم وأخبارهم، فتنكشف لك وجوه الفشل والنجاح في ضوء حياتهم.

أنهي كلماتي بأنني لا أستطيع التعبير عما تخفيه الكتب من الكنوز والدرر وكم هي وفيٌّ لصاحبها، وهي صديق حميم يقضى على أحزان الحياة في كل زمان ومكان، ولن تخسر ولن تندم مهما تصاحبها، وتسامرت معه، وتسيح فيها، وها أنا! قد ربطت الصداقة بيني وبينها، وصار في قلبي لوعة من الشوق بأن يكون الكتاب صديقا لكل أحد في هذه العزلة في زمن الكورونا، فأنصح به الجميع.

Leave a Reply

avatar
3000
  Subscribe  
Notify of