عادت أيام الأحلام

أبو عفاف عبدالوحيد الإنتاج الأدبي النثري

يقطع خمسين كيلو مترا يوميا لكسب لقمة العيش. يحصل على بضعة آلاف لا تكفي لمصاريف البيت. يعود من الشركة مساء وهو مرهق، يستريح قليلا ثم يخرج للعمل الإضافي ليزيد الدخل. يعود متأخرا في الليل والأولاد نائمون. وتستمر الحياة على هذا المنوال.
"مضت سنوات لم نقض يوما كاملا في البيت مع الأولاد” همست الزوجة الصبورة.
"أنتِ تعرفين ظروف عملي وتلبية التكاليف اليومية” تلكع الزوج بصوت خافت.
"الأولاد يحتاجون إلى عنايتك أكثر، رجاء أعط قليلا من الوقت ليستأنسوا بك، وتكون أضواء البيت مفعمة بالحيوية”، تكمل الزوجة أطراف كلامها و هي تدخل المطبخ.
"أنتِ محقة فيما تقولين، وأقدر دورك في تربية الأولاد وإدارة البيت، ولكن تعرفين أن الظروف….” معتذرا عن قصوره.
خرج للدوام حسب العادة وهو يحاور نفسه: "متى يتسنى لي فرصة لقضاء الوقت النوعي مع الأهل والأولاد في ظلال الفرح والسرور، أقدم لزوجتي سعادة لطالما تمنيتها منذ سنوات”، يسبح في فضاء الأفكار إذ وصل القطار للمحطة، نزل وتوجه إلى الشركة. "اليوم ليس كسائر الأيام على عادتها، يبدو أن هناك حالة طارئة” يساور نفسه وهو يدخل في مكتبه.
القناة الرسمية تبث خبرا عاجلا عن فيروس كورونا الذي بدأ ينتشر في أنحاء البلاد بسرعة. يتعدى ويهاجم على أماكن التجمعات، وينتقل من إنسان إلى إنسان عن طريق العطاس، والاختلاط؛ ولذا قررت الحكومة إغلاق الدولة كاملة حتى إشعار آخر. نزل هذا الخبر على مدير الشركة كالصاعقة، وهو مذهول!، بعد قليل، جمع الموظفين، وأعلن عن إجازتهم وإغلاق الشركة حتى إشعار آخر.
تهلل وجهه فرحا، ولكن سرعان ما علق ذهنه بشيء آخر: ماذا عن راتبي؟ هل تدفعه الشركة أم تقطعه؟ ماذا لو قررت تسريح…؟ يختلج في ذهنه أسئلة لا جواب لها عنده. توقف برهة، وبدأ يفكر جديا بهذا الأمر إذ يقرع الأمر السامي أسماعه بأن الدولة ستتحمل 60% من رواتب الموظفين في القطاع الخاص، وأن ليس لأي شركة حق في تسريح الموظفين خلال هذه الأزمة.
يسارع إلى البيت بخطوات حثيثة ليزف هذه البشرى لزوجته الغالية.
قرع الباب وهو متأخر. "من بالباب”؟ صوت من الداخل.
"أنا… أنا.. أبو أحمد” يرد باستعجال.
"لماذا تأخرت اليوم كثيرا؟” تساءلت الزوجة.
"لا، لا… خرجت من العمل مبكرا، تجولت في الأسواق، اشتريت للأولاد هدايا، ولكِ هدية خاصة” رد عليها مبتسما.
"لا حاجة إلى ذلك، وعلينا دفع القروض…” ردت الزوجة بهدوء.
"هذا صحيح، ولكن لدي اليوم بشرى! لا أذهب للعمل إلى الشركة من الغد…”.
"ماذا تقول؟ وكيف تترك العمل وليس لدينا دخل آخر؟” تستفسر مستغربة.
"لا تستعجلي، أنا سأشرح لكِ الوضع” وهو يطمئنها بكلامه.
هاجم الفيروس على بلادنا، الدنيا كلها توقفت، وحركات النقل تجمدت، ولا حل للحد من انتشار هذا الفيروس إلا بالبقاء في البيت، ولا خروج منه إلا لحالة طارئة. ولكن أيتها العزيزة لا تقلقي من توقف العمل؛ لأن هناك بشرى بأن الشركة لن تقطع الراتب.
اطمأنت بكلامه، وبرزت على محياها أضواء البهجة والنضارة، وكأن النوم طار من وجهها. عادت الأفراح في البيت، تقلصت المصاريف في أيام الحجر المنزلي، وهما سعيدان جدا بالبقاء مع الأولاد لساعات بعد سنوات عجاف، وكأنها كانت تحلم لهذه الأيام السعيدة، أصبح القمر بدرا منيرا، وتحولت أيام الحجر نعمة مبتغاة لهذه الأسرة.

1
Leave a Reply

avatar
3000
1 Comment threads
0 Thread replies
0 Followers
 
Most reacted comment
Hottest comment thread
1 Comment authors
عبد العزيز بن محمد يوسف السلفي Recent comment authors
  Subscribe  
newest oldest most voted
Notify of
عبد العزيز بن محمد يوسف السلفي
Guest
عبد العزيز بن محمد يوسف السلفي
ما شاء الله